العشر الأواخر والأعمال بالخواتيم
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته …………… أما بعد ،،،
فها هو قد ذهب نصف شهر رمضان شهر الرحمة ، وما أسرع ذهابه وانقضاءه على الجادين والمفرطين سواء إلا أن الجادين فيه بالعمل الصالح تبقى آثار جدهم وأعمالهم بأن تكون ذخراً لهم عند لقاء ربهم ، فهم عند لقاء ربهم ومولاهم فرحون مسرورون (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) بخلاف المفرطين فأقل أحوالهم أنهم تركوا ما يقربهم إلى ربهم إن لم يكونوا عمّروا ساعات حياتهم بما يبعدهم ويسخط خالقهم عليهم
وكم ستكون خسارة المحارب لله بمعصيته من رؤية المحرمات وسماعها، وأكل الحرام من الربا والرشوة (والمسماة بخشيش أو حق الشاهي أو حق القات وهكذا…) والظلم للخلق، والتعبد بالبدع والدفاع عنها وعن أهلها بحجة العادة وأنها مألوفة وإرضاء المجتمع والخلق .
وسيأتي اليوم الذي يتمنون فيه الرجوع إلى الدنيا لإصلاح العمل كما قال تعالى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : 37]
وكم سيلوم المفرط – كالمتعصب للبدع وأهلها واللاهي عن طاعةِ اللهِ – شيطانَه الذي أغواه بمطاوعة منه كما قال تعالى (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم : 22]
يا طلاب الجنان كابدوا أنفسكم وسوقوها إلى ما فيه نجاتها .
يا طلاب الجنان إن الراحة المؤقتة المنغصة تفوت الراحلة الدائمة المنعمة الصافية من الأكدار ، فاجعلوا راحتكم الراحة الكبرى عند لقاء ربكم كما قال سبحانه عن أهل رضوانه وجنته (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر : 74]
قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2 / 166) : وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل : تلمح العواقب ومطالعة الغايات
وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة
على قدر أهل العزم تأتي العزائم … وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها … وتصغر في عين العظيم العظائم ا.هـ
يا طلاب الجنان جاهدوا أنفسكم على الإكثار من الطاعات ، فأكثروا من قراءة كلام ربكم القرآن ومن الصدقات وقيام الليل فإنها أيام قلائل .
وإن من أعظم ما تنفق فيه الأموال ما يحى به الناس الحياة الحقيقية حياة الوحي حياة الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة من دعوة للتوحيد والسنة كما قال تعالى ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )[الأنعام : 122]
والرسل والأنبياء أرسلوا بهذا .
وإنه لينبغي للمؤمن أن يكون وجلاً خائفاً أن يُسخط اللهَ فيسخط عليه فيكون ممن قال الله فيهم (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) [الرحمن : 41]
يا ويلنا وويل أمهاتنا من ينجينا من هذا الموقف إذا قضى علينا بهذا القضاء وإلى أين المهرب والمفزع والله يقول (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) [سبأ : 51]
اللهم إننا نناشدك بما أنت أهله أن ترحم ضعفنا وأنت الرحمن الرحيم ، فتجعلنا من عبادك الصالحين المرضي عنهم ممن تسكنهم جنتك دار رحمتك كما قلت وقولك حق (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فاللهم لا مفر من سخطك وأليم عقابك إلا إليك (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)
قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (1 / 469): وحقيقة الفرار : الهرب من شيء إلى شيء وهو نوعان : فرار السعداء وفرار الأشقياء ففرار السعداء : الفرار إلى الله عز و جل وفرار الأشقياء : الفرار منه لا إليه وأما الفرار منه إليه : ففرار أوليائه . قال ابن عباس في قوله تعالى : ففروا إلى الله : فروا منه إليه واعملوا بطاعته . وقال سهل بن عبدالله : فروا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون : اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة ا.هـ
وإني لأدعو نفسي وإخواني تكرار قراءة وتأمل ما ذكره الله في كتابه في أواخر سورة الزمر مع تذكر وتيقن أننا أحد هذين الصنفين لا محالة .
فيا ترى من أي الصنفين نحن.
يا لله ما حالنا في سابق علم الله.
قال تعالى في أواخر سورة الزمر (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)
انظر عملك وراجعه أجمعت بين الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بأن حققت التوحيد واجتنبت البدع كلها وصبرت على ذلك من مخالفة العادات والأعراف ومخالفة ما تدعوك إليه الأحزاب البدعية المختلفة وتزودت من العبادة بفعل الواجبات وترك المحرمات والقيام بالمستحبات والسنن المتنوعة.
ثم قال تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)
أعوذ بالله أن نكون من هؤلاء وأساله برحمته وفضله أن يجنبنا سبلهم فكم خسارتهم ويا عظيم مفجعهم وهول موقفهم
ثم قال تعالى ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [الزمر : 70 – 74]
إلهنا ومولانا أدخلنا برحمتك وفضلك الجنة دار المتقين الرابحين نتبوأ منها حيث نشاء وأعذنا أن ندخل أبواب جهنم دار الخاسرين .
وإن الناصح لنفسه ليعلم أن من أسباب النجاة العمل الصالح قال تعالى (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : 43]
وأن الله بعدله لم يسو بين الصالح والطالح والعامل بطاعته و بسخطه قال تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : 35] وقال (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية : 21]
فالهرب الهرب والنجاة النجاة من النار بعمل الطاعات وإن من الطاعات الصالحات اعتكاف العشر الأواخر في رمضان ليصفو القلب ويصلح ، فمن فرط فيما مضى من رمضان فليصلح آخره ومن أصلح ما مضى فليزدد فالأعمال بالخواتيم قال ابن القيم في زاد المعاد (2 / 82): لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفا على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام مما يزيده شعثا ، ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى ، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال بدلها ، ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم
ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط ، بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم – ثم قال – كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة فقضاه في شوال . واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل . وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل . وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله فأمر به مرة فضرب فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال . وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما ، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة فلما كان ذلك العام ، وكان يعرض عليه القرآن أيضا في كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين . وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة فترجله وتغسله وهو في المسجد وهي حائض وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف . فإذا قامت تذهب قام معها يقلبها ، وكان ذلك ليلا ، ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها ، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره في معتكفه ، وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض وهو على طريقه فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرا كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم فهذا لون والاعتكاف النبوي لون . والله الموفق .ا.هـ
أسأل الله أن يجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلنا في سابق علمه مع الأنبياء والمرسلين خيرة خلقه، في الفردوس الأعلى دار كرامته وفضله .
عبدالعزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
http://www.islamancient.com /
17/9/1430 هـ