الخطبةُ الأولَى:
الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ الظَاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، قَدِيْمَاً وَحَدِيْثَاً، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ سَارُوا فِي نُصْرَةِ دِيْنِهِ سَيْرَاً حَثِيْثَاً، وَعَلَى أَتْبَاعِهِم الَّذِيْنَ وَرِثُوا عِلْمَهُمْ، وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيْاءِ أَكْرِمْ بِهِمْ وَارِثَاً وَمَوْرُوثَاً.
وأشهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ دينَ اللهِ عظيمٌ، وهوَ الأمانةُ الَّتِي أبَتِ السماواتُ والأرضُ والجبالُ أَنْ تحمِلَهَا وحمَلَهَا الإنسانُ، قالَ تعالَى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72].
وخاتَمُ دينِ اللهِ دينُ الإسلامِ الَّذِي بُعِثَ بهِ خاتَمُ الأنبياءِ والمُرسَلينَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ ﷺ، وقدْ اصطَفَى اللهُ لحملِ هذَا الدِّينِ أصحابَهُ الكرامَ، فبَذَلُوا في ذلكَ الأنفسَ والأولَادَ والأموالَ والغالي والنَّفيسَ،
فيا للهِ ما أعظمَ ما ضحُّوا، وأكبرَ ما بذَلُوا، وأشقَّ ما واجَهُوا،
وكلُّ ذلكَ في ذاتِ اللهِ، كما روى البخاريُ عن خُبيبِ بن عدي الأنصاريِّ أنه قال:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا … عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ … يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ولمْ يصطفِ اللهُ هؤلاءِ الصحابةَ لصُحبةِ محمدٍ ﷺ وللقيامِ بهذهِ الأمانةِ إلا لصلاحِهِمْ وحُسنِ حالِهِمْ، قالَ ابنُ مسعودٍ: “إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ فوجدَ قلبَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خيرَ قلوبِ العبادِ فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعثهُ برسالتِهِ ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ فوجدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ “. رواهُ أحمدُ.
وقَدْ جاءَ في فضائلهِمْ قولهُ تعالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100] وقالَ تعالَى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
أخرجَ الشيخانِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ عنِ النبيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «خيرُ الناسِ قرنِي، ثُمَّ الذينَ يلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يلونَهُم»، وأخرجَ الشيخانِ عَنْ أبي سعيدٍ ومسلمٌ عَنْ أبِي هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَا تسبُّوْا أصحابِي، فلَوْ أنَّ أحدَكُمْ أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهبًا ما بلَغَ مُدَّ أحدهِمْ وَلَا نصيفَهُ».
وثبتَ عندَ ابنِ ماجهْ والإمامِ أحمدَ في فضائلِ الصحابةِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ: ” لا تسبُّوْا أصحابَ محمدٍ ﷺ، فَلَمُقَامُ أحدهِمِ ساعةً، خيرٌ مِنْ عمَلِ أحدِكُمْ عُمُرَهُ “.
ولأجلِ ثناءِ اللهِ ورسولهِ ﷺ على الصحابةِ؛ فإنَّ العلماءَ مجمعونَ علَى أنَّهمْ عُدُولٌ أخيَارٌ، كمَا حكَى الإجماعَ الخطيبُ البغداديُّ وابنُ كثيرٍ والنوويُّ وابنُ المُلقِّنِ وابنُ حَجَرٍ وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ.
ومما أجمعَ عليهِ أهلُ السُّنةِ وقرَّروهُ في كتبِ الاعتقادِ: أنَّ الصحابةَ أفضلُ هذهِ الأمةِ، لما تقدَّمَ ذكرهُ مِنَ الأدلةِ.
ومِنْ قواعِدِ أهلِ السُّنةِ المُجمعِ عليهَا أنَّ القدْحَ في آحادِ الصحابةِ ابتداعٌ في الدِّينِ، وكلُّ مَنْ فعَلَ ذلكَ فهُوَ مبتدعٌ ضالٌّ.
وَأخرجَ الخطيبُ البغداديُّ في كتابهِ (الكفايةَ) عَنْ أبي زُرْعَةَ أنَّهُ قالَ: “إذَا رأيتَ الرجلَ ينتقصُ أحدًا مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ فاعلَمْ أنَّهُ زنديقٌ“.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: “إذَا رأيتَ رجلاً يذكرُ أحدًا مِنْ أصحابِ محمدٍ ﷺ بسوءٍ فاتَّهمهُ علَى الإسلامِ “. ذكرهُ ابنُ الجوزيُّ في (مناقبِ الإمامِ أحمدَ).
وقالَ الإمامُ أحمدُ في (أصولِ السُّنةِ): “مَنْ انتقَصَ أحدًا مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ أو بَغِضَهُ بحَدَثٍ مِنْهُ أو ذَكَرَ مَسَاوِيهِ كانَ مُبتدعًا ” تأمَّلْ إلَى قولِهِ: (أو ذَكَرَ مَسَاوِيهِ).
أيُّهَا المسلمونَ،
لَا يجوزُ لأحدٍ أَنْ يتكلَّمَ في أحدٍ مِنْ أصحابِ النبيِّ ﷺ أَوْ يذكُرَهُمْ بِسُوءٍ، فَهُمْ خيرُ القرونِ وخيرُ الناسِ، لَا يجوزُ التكلُّمُ فيمَا شَجَرَ بينهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-؛ لأنَّ هذَا يعُودُ إلَى نَقْصِ محبتهِمِ في القلوبِ مَعْ أنَّ مَا رُوِيَ فيمَا حصَلَ بينهُمْ ليسَ قادحًا في عدالتِهِمْ؛ وذلكَ أنَّ أكثرَ المرويَّ في كتبِ التاريخِ وغيرهَا ممَّا شجَرَ بينهُمْ لا يصحُّ إسنادُهُ، ومَا صَحَّ إسنادُهُ فقَدْ غُيِّرَ فيهِ وَبُدِّلَ وَحُرِّفَ، وَمَا لمْ يُبدَّلْ وَلَم يُحرَّفْ فهُوَ نَزْرٌ قليلٌ وَهُمْ فيهِ مجتهدونَ مَا بينَ مصيبينَ لهُمْ أجرانِ أَوْ مخطئينَ لهُمْ أجرٌ واحدٌ، كمَا أخرجَ الشيخانِ مِنْ حديثِ عمرو بنِ العاصِ وأبي هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إذَا حَكَمَ الحاكمُ فاجتهدَ ثُمَّ أصابَ فلهُ أجرانِ، وإذَا حكَمَ فاجتهدَ ثُمَّ أخطَأَ فلَهُ أجرٌ».
وَمَا قُدِّرَ أنَّ أحدهُمْ تعمَّدَ الخطأَ فيهِ فإنَّ لهمْ حسناتٍ كثيراتٍ تُكفِّرُ سيئاتهِمْ، فَقَدْ قالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114] هذَا مُلخَّصُ مَا ذكرهُ شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ في كتابِ (العقيدةِ الوسطيةِ).
إذا عُرِفَ هذَا فلَا يجوزُ لأحدٍ أَنْ يتذرَّعَ بانتقاصِ أحدٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ لشيءٍ حصلَ بينهمْ.
أسألُ اللهَ أَنْ يغفِرَ لنَا بِحُبِّنَا لأصحابِ نبينَا محمدٍ ﷺ، وأَنْ يجمعنَا بهِمْ في الفردوسِ الأعلَى.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الَّذِي أكمَلَ لنَا الدِّينَ، وأتمَّ علينَا النِّعمةَ، وجعلَ أمتنَا خيرَ أُمَّةٍ، وبعثَ فينَا رسولًا يتلوْ علينَا آياتِه ويُزكِّينَا ويُعلِّمُنَا الكتابَ والحِكمةَ … أمَّا بعدُ:
فإنَّهُ ينبغِي لأهلِ السُّنةِ أَنْ يجتهدوْا في نشرِ فضائلِ الصحابةِ والتذكيرِ بهَا، وإبرازِ سِيَرِهِمْ ومنَاقِبهمُ الفرديَّةِ أو الجماعيَّةِ مِنْ تضحيتهمْ الكبيرةِ معَ رسولِ اللهِ ﷺ في الغزواتِ والمعاركِ ونشرِ الدِّينِ، وتعليمِ الناسِ فرائِضَ ربِّ العالمينَ، وقمعِ الشركِ والبدعةِ مِنَ الضالينَ.
فمَا أحسنَ أَنْ تُذكرَ لهمْ سيرُ الخلفاءِ الراشدينَ، والعشرةِ المُبشرينَ، وسيرِ ابنِ مسعودٍ وابن عباسٍ وابنِ عمرَ وغيرهمْ مِنْ أزواجِ النبيِّ ﷺ كعائشةَ وخديجةَ وأمِّ سلمةَ.
إنَّهُ ينبغي على الآباءِ والمُربِّينَ أَنْ يُبرزوْا القُدوَاتِ لأبنائنَا ذكورًا وإناثًا، ليُحبَّهُم الصغيرُ والكبيرُ، ويقتدوْا بهِم، فمَا أحوجَ الأمةَ لقدوَاتٍ عِظامٍ كهؤلاءِ الصحابةِ الكرامِ.
روَى ابنُ عبدِ البرِّ فِي (جامعِ بيانِ العلمِ وفضلهِ) عَنْ مسروقٍ أنَّهُ قالَ: “ حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا مِنَ السُّنَّةِ “.
ورَوَى ابنُ عساكرٍ في (تاريخِ دمشقَ) عَنْ مالكِ بنِ أنسٍ أنَّهُ قالَ: “صالحو السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمون السورة من القرآن“.
وذلِكَ بقراءةِ الكتبِ في سِيَرِهِم، أو سماعِ دروسٍ في مناقِبِهِمْ وفضائلهِمْ مِنَ الموثوقينَ بواسطةِ اليوتيوبِ أو غيرهِ، سواءٌ كانَ السَّماعُ جماعيًّا أو فرديًّا ولو في السيارةِ ذهابًا وإيابًا.
اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ أنْ نكونَ منَ التابعينَ بإحسانٍ للصحابةِ الماضين.
اللهُمَّ أعزَّ دينَكَ وأعلِ كلمَتَكَ، اللهُمَّ اجعلنَا مِنْ أنصارِ الدِّين، واجعلنَا نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنَّا يا ربَّ العالمينَ.
وقومُوْا إلَى صلاتِكُم يرحمْكُمْ اللهُ.