الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين ، وأُصلّي وأُسلّمُ على خَيرِ خَلْقِ اللهِ أجمعين ، وعلى آلهِ وأصحابهِ والتَّابعين ٬ أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ الوسيلةَ هي ما يُوصِلُ إلى الشَّيءِ مَقرونًا بالرَّغبةِ ، كما قال ابنُ فارسٍ – رحمه الله – في معنى الوسيلة : الرَّغبةُ والطَّلبُ ، يُقالُ : وَسَلَ ، إذا رَغِبَ ، والواسِلُ الرَّاغبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ .
[ معجم مقاييس اللغة (٦/١١٠) ]
والوسائلُ قِسمانِ لا ثالثَ لهما :
١) الوسائلُ الكونيَّةُ : وهِيَ الأسبابُ الموصلةُ إلى مَنافعِ الدُّنيا ، خَلَقها اللهُ لِتؤدِّيَ غَرَضها بطبيعةِ خِلْقتها ، وتُعرَفُ بالفِطرةِ والغَريزةِ والتَّجارِبِ ، وهيَ مُشترِكةٌ بينَ جَميع البشرِ والحيوانِ وما يَدِبُّ على هذهِ الأرضِ ، فتجدُ المولودَ يلتقِمُ ثَديَ أُمِّهِ لِيَسُدَّ رَمَقهُ ، والطَّيرَ تُهاجِرُ طَلبًا للماءِ والكلأِ ، والسِّباعَ تَترصَّدُ لِفَرائِسِها بَحثًا عَنِ الطَّعامِ ، كما تَجدُ الإنسانَ لا يتوقَّفُ عنِ البحثِ والاكتشافِ لما يُسهِّلُ عليهِ أمورَ مَعيشتِهِ في جميعِ مَجالاتِ الحياة .
٢) الوسائلُ الشَّرعيَّةُ : وهِيَ الأسبابُ الموصلةُ إلى مَنافعِ الآخرةِ ، ولا تُعرَفُ إلَّا مِن جِهةِ الأنبياءِ والمُرسلينَ ؛ الَّذينَ جَعَلَهُمُ اللهُ وسيلةً بينهُ وبينَ عِبادِهِ في تبليغِ الدِّينِ ، وبيانِ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويَرضاهُ ، وما يكرهُهُ ويأباهُ ، وهيَ خاصَّةٌ بأهلِ التَّقوى ، الَّذينَ آمنوا برُسُلِ اللهِ ، واتَّبعوا ما جاؤوا به مِنَ الاعتقادِ والعملِ .
💡فمهما اتَّخذَ النَّاسُ وسائلَ تُقرِّبُهم إلى ربِّهم ، فلَن يَحصُلَ مَقصودُهُم منها إلَّا بالوسائلِ الَّتي جعلَها اللهُ وسيلةً إليه ، وإلى رِضوانهِ ، وبيَّنها في شَريعتهِ الَّتي أودَعَها الأنبياءَ والمرسلينَ ، فبلَّغوها أقوامَهُم .
فالوسائلُ في الشَّرعِ هيَ طاعةُ اللهِ ، ولا تكونُ إلَّا بالإيمانِ بما جاءتْ به الرُّسُلُ ، والعملِ بالطَّاعاتِ ، وتَركِ المنكراتِ ، وكلُّ هذهِ الأمورُ الثَّلاثةُ لا يُقبَلُ إلَّا باستكمالِ شَرطَيْ قَبولِ الطَّاعةِ :
🔹 قالَ اللهُ تعالى : { فمَن كانَ يَرجو لِقاءَ ربِّهِ فَلْيعملْ عملًا صالحًا ولا يُشركْ بعبادَةِ ربِّهِ أَحدًا } .
🔸 قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ – رحمهُ اللهُ – : وهذانِ رُكنا العملِ المُتقبَّلِ ، لا بُدَّ أن يكونَ خالِصًا للهِ ، صَوابًا على شَريعةِ رَسولِ اللهِ ﷺ .
[ تفسير ابن كثير (٣/١٣٣) ]
💡 وقَد ذُكرتِ الوسيلةُ بِنصِّها في كتابِ اللهِ تعالى في مَوضِعينِ :
🔹 الموضعُ الأوَّلُ عند قوله تعالى : { يا أيُّها الَّذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وابتَغُوا إليهِ الوَسيلةَ وجاهِدوا في سبيلِهِ لَعلَّكم تُفلحون } .
🔸 قال الإمامُ ابنُ جَريرٍ – رحمهُ اللهُ – : أَجيبوا اللهَ فيما أَمَركُم ونَهاكُم بالطَّاعةِ له في ذلكَ ، وحَقِّقوا إيمانَكم وتَصدِيقَكُم ربَّكُم ونَبيَّكُم بالصَّالِحِ مِن أعمالِكُم ، واطلُبوا القُربةَ إليهِ بالعَمَلِ بما يُرضيه .
[ تفسير الطبري (١٠/٢٨٩-٢٩٠) ]
🔸 ونقلَ ابنُ كثيرٍ عَن طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ نحوَ هذا القَولِ ، ثمَّ قال – رحمهُ اللهُ – : وهذا الَّذي قالَهُ هؤلاءِ الأئِمَّةُ لا خِلافَ بينَ المفسِّرينَ فيه .
[ تفسير ابن كثير (٢/٦٧) ]
🔹 والموضعُ الثَّاني عندَ قولهِ تعالى : { أُولئكَ الَّذينَ يَدْعونَ يَبتَغونَ إلى ربِّهمُ الوسيلةَ أيُّهم أَقرَبُ ويَرجونَ رَحمتَهُ ويَخافونَ عذابَهُ إنَّ عذابَ ربِّكَ كانَ مَحذُورا }
🔸 قال ابنُ مَسعودٍ – رضيَ اللهُ عنهُ – : نَزلتْ في نَفَرٍ مِنَ العربِ كانوا يَعبدونَ نفرًا مِنَ الجنِّ ، فأسلَمَ الجِنِّيونَ ، والإنسُ الَّذين كانوا يَعبدونَهم لا يَشعرون .
[ صحيح مسلم (٣٠٣٠) ]
🔸 قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ – رحمهُ اللهُ – : أي استمرَّ الإنسُ الَّذينَ كانوا يَعبدونَ الجنَّ على عِبادَةِ الجنِّ ، والجنُّ لا يَرضَونَ بذلكَ لِكونِهم أسلَمُوا ، وهُمُ الَّذينَ صاروا يَبتغونَ إلى ربِّهمُ الوسيلةَ .
[ فتح الباري (٨/٣٩٧) ]
💡وذُكرتِ الوسيلةُ بمعناها في القُرآنِ في مَواضِعَ كثيرةٍ ، ومَن تتبَّعَها وجدَها لا تَخرجُ عن خمسةِ أمورٍ :
١) التَّوسُّلُ بِالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ ، وذلكَ في قَولِ الحواريِّينَ : { رَبَّنا آمنَّا بما أَنزلتَ واتَّبعنا الرَّسولَ فاكتُبنا معَ الشَّاهدين } .
٢) التَّوسُّلُ بِأسماءِ اللهِ الحُسنى ، وذلكَ في قَولهِ تعالى : { قُلِ ادعوا اللهَ أو ادعوا الرَّحمنَ أيًّا ما تَدْعوا فَلَهُ الأسماءُ الحُسنى } .
٣) التَّوسُّلُ بِصفاتِ اللهِ العُلى ، وذلكَ في قَولِ بَني إسرائيلَ : { على اللهِ تَوكَّلنا ربَّنا لا تَجعلْنا فتنةً للقَومِ الظَّالمينَ * ونَجِّنا بِرَحمتكَ مِنَ القَومِ الكافرينَ } .
٤) التَّوسُّلُ بِدُعاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ، وذلكَ في قَولِ إِخوةِ يُوسُفَ لأبيهِم يَعقوبَ عليهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ : { يا أَبانا استغفِر لَنا ذُنوبَنا إنَّا كُنَّا خاطِئينَ } .
٥) التَّوسُّلُ بِالتَّذلُّلِ إلى اللهِ ، والشَّكوى إليه بواقِعِ الحالِ ، وذلكَ في قَولِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عندما أعانَ البِنتَينِ : { فَسَقى لهُما ثمَّ تَولَّى إلى الظِّلِّ فقالَ ربِّ إنِّي لِما أَنزلتَ إليَّ مِن خَيرٍ فَقيرٌ } .
وقَد ذُكرتْ هذهِ الأمورُ الخمسةُ نفسُها في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ ، لكنِّي اكتفيتُ بما جاءَ في كتابِ اللهِ طَلبًا للاختصارِ ، وقَطعًا لِطريقِ الطَّاعنينَ بالأحاديثِ النبويّةِ بغير بيِّنةٍ .
💡 وما زادَ عن هذهِ الأمورِ ، مِن توسُّلٍ بالأنبياءِ والصَّالحينَ ، والمَشاهِدِ والمَقاماتِ ، والأشجارِ والأحجارِ ، بَلْهَ الحيواناتِ والقاذوراتِ ! ٬ كلُّ ذلكَ لا دليلَ له في الإسلامِ ، ولا يَعرفْهُ الأنبياءُ ومَن اتَّبعَهُم ، فحَرِيٌّ بمَن أرادَ النَّجاةَ يومَ يَلْقى اللهَ تعالى أن لا يَستدركَ على الشَّريعةِ ، ولا يَزيدَ في الدِّينِ ما ليسَ منهُ ، بل ما نَهى القرآنُ والسُّنَّةُ بصريح العبارة عنهُ ، من القَولِ على اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ، والابتداعِ في الدِّينِ .
هذا واللهُ أعلمُ ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا مُحمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبهِ ، والحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ .
أخوكم فراس الرِّفاعي
٣٠ جمادى الآخرة ١٤٤٥هـ