بيوت الله ودخول رمضان


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الجوادِ الكريم، المَانِّ على عبادِهِ بمواسمِ الخيرات، وأوقاتِ زيادةِ الحسنات، وأزمِنةِ تكفيرِ السِّيئات، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ على عبدِهِ ورسولِهِ محمدٍ الصادقِ الأمين، أتقانا للهِ ربِّنا، ورضيَ اللهُ عن آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وعنَّا معَهُم، إلى يومِ الحشرِ والجزاء.

أمَّا بعدُ، اتقوا الله فهي وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، وأعظم الحكم لشرعية صيامه ، كما قال جل وعلا :(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ)

عباد الله : إنَّ أحبَّ البِقاعِ في الأرضِ إلى اللهِ ــ جلَّ وعلا ــ المساجد، لِمَا صحَّ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:( أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا ).

وإنَّما كانتِ المساجدُ أحبَّ البقاعِ إلى اللهِ سبحانَهُ: لأنَّها

أُسِّسَتْ على التقوى، وخُصِّصَت لِعبادةِ اللهِ وحدَه، وإقامَةِ ذِكرِه، وفيها يَجتمعُ المؤمنونَ لِطاعةِ ربِّهم، وإظهارِ شعائِرِ دِينِه، وتحضُرُهُم فيها الملائكةُ، وهيَ مدارسُ العلمِ والفقهِ، ومَحاضِنُ التربيةِ، وأماكنُ الترغيبِ في الدارِ الآخرةِ، والعملِ لَهَا، وموضعُ انشراحِ الصَّدرِ وطُمأنِنَةِ القلبِ بِذكرِ اللهِ ومُناجاتِهِ ودعائِهِ واستغفارِهِ وتلاوةِ كتابِه، وتذاكُرِ سُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، والمركزُ الأساسُ في الدعوةِ إلى ائتلافِ المؤمنينَ وتعاطُفِهِم وتراحُمِهم الأكبر.

وأمَّا الأسواقُ، فكانتْ أبغضَ البِقاعِ إلى اللهِ تعالى: لأنَّها أماكِنُ الغِشِّ، والخِداعِ، والرِّبا، والأَيمانِ الكاذبةِ، وإخلافِ الوعدِ، والسِّلَعِ المُحرَّمة، والإعراضِ عن ذِكرِ اللهِ والصلاةِ، وكثرةِ الفسادِ والإفسادِ، والتَّبرُّجِ والسُّفور، والتَّزاحُمِ على الدُّنيا، والتنافسِ على ملَذَّاتِها.

وقد قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ مُعظِّمًا شأنِ المساجدِ، ومُشيدًا بعُمّاَرِها بالعباداتِ المُتنوِّعةِ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ).

وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال مُبيِّنًا فضلَ إعمارِ المساجدِ بالعلمِ والتعليمِ والتدارسِ للقرآنِ: (( مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )).

ويزدادُ هذا الفضلُ إذا كانَ في شهرِ الخيرِ والبركةِ، شهرِ رمضانَ، الذي تكاثَرتْ فضائلُهُ، وتضاعفتْ أجورُهُ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ

الشَّيَاطِينُ»

وتوعَّدَ اللهُ ــ جل جلاله ــ مَن تسبَّب في خرَابِها الحِسِّيِّ والمَعنَوِيِّ، فقال سبحانَه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).

والخَرابُ الحِسِّيُّ لَهَا يكونُ: بهدمِها، وتقذِيرِها بالنجاساتِ والأوساخِ، وتضييقِ أماكنِ الصلاةِ فيها على الناسِ بشغلِها بما لا يَحِل، وأذِيَّتِهم فيها بالشِّركياتِ والبدع.

والخَرابُ المَعنويُّ لَهَا يكونُ: بمنعِ الذَّاكِرينَ لاسمِ اللهِ فيها، ومنعِ عُمَّارِها مِن عبادَةِ ربِّهم بداخِلها،

وقد أبانّ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ أنَّهُ لا يَعمُرُ المساجدَ إلا أهلُ الإيمانِ بِه، فقال ــ تباركَ اسمُه ــ: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ).

ونَهَى اللهُ ــ جلَّ وعزَّ ــ أنْ يُعبدَ معَهُ أحدٌ في المساجدِ، ولا في غيرِها مِن الأماكنِ، لا ملَكًا مُقرَّبًا، ولا نبيًّا مُرسَلًا، ولا وليًّا صالحًا، لا بعبادةِ دعاءٍ ولا بغيرِها مِن العبادات، فقال سبحانه:( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).

ولقد خالَفَتْ الشِّيعةُ الرَّافِضةُ وغُلاةُ الصُّوفيةِ هذا، فجعلوا المساجدَ أماكنَ لِعبادةِ أئِمَّتِهم فيها، حيثُ بَنوا على قبورِهِم المساجد، ودفنُوهُم في المساجد، فأصبَحوا يدعونَهُم فيها معَ الله، ويَحلِفونَ بِهِم، ويَزحفونَ إلى قبورِهم ساجدين، ويَتمسَّحونَ بقُبورِهم وأعمدتِها طلبًا للبَرَكةِ مِنهم، تقليدًا مِنهم لليهودِ والنَّصارى، ومُتباعَةً لهُم، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ قبلَ موتِهِ بليالٍ زاجِرًا أمَّتَهُ عن ذلك:( أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ).

وصحَّ أنَّه ذُكِر لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كنيسةٌ بالحبشةِ فيها تصاوير، فقالَ صلى الله عليه وسلم:( إِنَّ أُولَئِك إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِك شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).

عباد الله : وعِمَارَة المساجد الحِسِّيَّةٌ؛ وَذَلِكَ بِبِنَائِهَا وَتَشْيِيدِهَا، وَتَعَاهُدِهَا بِالصِّيَانَةِ وَالنَّظَافَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ )، ومَفْحَصُ القَطَاةِ هو: الموضِعُ الصغيرُ الذي يَجثُوا فيهِ طائرُ القَطَاةِ على

بيضِه.

أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم .

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ المَلِكِ الأعلَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ عالِمُ السِّرِ والنَّجوى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الأتقَى، ورضِي اللهُ عن آلِهِ وصحبِهِ أئمَّةِ الهُدى.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فهَا قد دخلتُم في شهرِ رمضان، شهرٌ جَعلَ اللهُ صيامَه أحدَ أركانِ دِينِهِ الإسلام، فاحرِصوا على أنْ تكونوا مِمَّن يُحقِّق الغرَضَ مِن صيامه، ألا وهو تقوى اللهِ سبحانَه، بأن يكون الصيامُ زاجرا لكم ومبعِدا عن معصيةِ ربِّكم، ودافعا ومقويا على العبادة، في ازديادٍ وإحسانٍ وخُشوع.

عباد الله : ليس الصيام بترك المُفطِّراتِ فقط، فذاك عند

من سبق من السَهل اليسير،  ثبتَ عن عددٍ مِن تلامذةِ الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ أنَّهم قالوا:( إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ).

إلا أنَّ الصائمَ المُسدَّدَ هو: مَن صامَتْ جوارحُهُ عن الآثام، ولِسانُهُ عن كلِّ قولٍ مُحرَّم، وبطنُهُ عن الطعام والشراب، وفرْجُه عن الجِماعِ والاستمناءِ والفُجور، وعَينُه عن النظرِ إلى المُحرَّماتِ، وكسْبُهُ وإنفاقُهُ عن المالِ الحرام.

وكما أنَّ الطعامَ والشَّرابَ يَقطعانِ الصيامَ ويُفسِدانِه، فكذلك الآثام تَقطعُ ثوابَه، وتُفسِدُ ثمرَتَه، حتى تُصَيِّرَ صاحبَهُ بمنزلةِ مَن لم يَصُم.

وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )، والمُرادُ بالزُّورِ: جميعُ الكلامِ المُحرَّمِ.

وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ

مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ).

واعلموا أيضًا: أنَّ مِن أعظمِ ما يُعينُ على تقوى اللهِ، وعبادتِهِ، وتلاوةِ القرآنِ، وحفظِ الصيامِ عن مُفسداتِهِ ومُنقِصاتِ أجْرِهِ، كثرةَ الجلوسِ في بيوتِ اللهِ المساجدِ، وقد صحَّ: ( أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنه ــ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا ).

جعلَنِي اللهُ وإيَّاكم: مِمَّن إذا ذُكِّرَ ادَّكَر، وإذا وعِظَ اعتبَر، وإذا أُعطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلِيَ صبَر، وإذا أذنَبَ استغفَر، اللهمَّ اجعلنا مِمَّن يصومُ رمضانَ ويقومُ ليلَهُ إيمانًا واحتسابًا فتَغفِرَ لهُ ما تقدَّمَ مِن ذِنْبِهِ إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، واسعُ الفضلِ والعطاء،

اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق وُلاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام

 

 

 

 


شارك المحتوى:
0