بسم الله الرحمن الرحيم
(حتى لا يكون علم المقاصد طاغوتًا)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصف الإمام ابن القيم المجاز بأنه طاغوت.
لأنه كثُر استعماله في الباطل، واستخدامه لتحريف الكلم.
مع أنه لو استُعمل على وجهه الصحيح لَما صح تحريف الكلم به لاسيما في أسماء الله وصفاته كما بينه ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-.
وهكذا علم المقاصد علم مفيد، وتكلم به علماء السلف ومن بعدهم بألفاظ مختلفة.
وذكره العلماء في كتب أصول الفقه وغيرها بلفظه وما يرادفه، إلى أن حاول أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه (الموافقات) أن يفيده بمزيد وأن يجمله بالتقعيد، لكن حصلت له فيه مبالغة من جهات، وأهمها جهتان:
الجهة الأولى: أنه نفخ فيه حتى أعطي حجمًا كبيرًا في باب الأحكام.
بل وظن كثير أنه انفرد بهذا العلم، مع أن العلماء قبل الشاطبي متواردون على ذكره باسم المقاصد وغيره، لاسيما في كتب أصول الفقه، فهو مذكور في مباحث منها مبحث الوسائل، وسد الذرائع، والاستحسان، والاجتهاد.
الجهة الثانية: أنه غلا فيه، ولم يجعل للمجتهد إلا وصفين أحدهما المجتهد في المقاصد، فقال: ” إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها والثاني: الممكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها ” [1].
وهذا خطأ وغلو، لم يسبق إليه الشاطبي بل من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بأصول الفقه العملي، ومنه المقاصد ،،،
والمراد بعلم المقاصد المعنى والحكمة الذي شرع من أجله الحكم الشرعي، فالنصوص الشرعية نهت عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية لحكم منها: سد ذرائع ما حرم الله من النظر لشهوة، والكلام بشهوة، ونحو ذلك مما هو أشد.
فمن الغلو في المقاصد أن يجوز أحد خلو رجل معين بامرأة معينة إذا غلب على ظنه عدم حصول المحرم وهكذا…
وهذه زلة وغفلة لمخالفة النص الشرعي، والنصوص الشرعية تبنى في سد الذرائع على الغالب من حال الناس لا النظر لأفرادهم، ثم ما أكثر ما يخطئ في تشخيص حال الأفراد.
وقد تطور استغلال علم المقاصد فأصبح طاغوتًا حتى استغله أقوام من أهل الرأي في إسقاط تكاليف الشريعة، وهم في ذلك ما بين مستقل ومستكثر، فكلما أرادوا دينًا إسلاميًّا يُرضي الغرب أو أن يُظهروا أنفسهم أنهم مثقفون وغير متحجرين، فزعوا إلى إسقاط الأصول الشرعية باسم المقاصد، ومن أشد من اشتهر به في القرن السالف وهذا القرن محمد عبده المصري، وعبد الله دراز، وابن عاشور التونسي، وتابعهم القرضاوي وعبد الله بن بيَّة، وهكذا.
ومن آثار غلو هؤلاء وأمثالهم في المقاصد أنهم أجازوا استمرار معاشرة الزوجة التي أسلمت مع زوجها الكافر، وإلغاء الحدود الشرعية والاكتفاء بإقامة العدل بزبالات وأفكار البشر، كما ذكر هذا عبد الله بن يوسف الجديع، وأجازوا تتبع الرخص خاصة لمن يفتي الأقليات الإسلامية، كما قرر هذا عبد الله بن بيَّة، وكما سار على هذا كثير من المفتين في اللجان الشرعية بالبنوك الربوية، وجوَّزوا الربا الصريح إذا قَلَّ، كما جوزه القرضاوي، وأنكروا جهاد الطلب كما فعل ذلك القرضاوي ومحمد ولد الددو وغيرهما [2].
وأشياء وأشياء كثيرة، كل هذا محاولة للخروج بدينٍ يُرضي الغرب أو لئلا يكونوا -بزعمهم- متحجرين ولا رجعيين، ثم زادوا على ذلك عدم الالتفات لفهم السلف ولا الإجماع ولا لدليل سد الذرائع والقياس إذا خالف أهواءهم، فالله الموعد.
وليعلم من سلك هذه المسالك من أهل العلم أنه يسلك مسالك مُهلكة وفي سخط الله مُردية، فإن هذا الدين العظيم أمانة على أهل العلم، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72] وليس ملكًا لأحد، بل الدين دين الله، ونحن جميعًا عبيده، وواجب أهل العلم معرفة ما يرضي الله بالطرق الشرعية التي شرعها الله، لا بأهوائهم وشهواتهم، قال تعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾ [الأحزاب: 46] وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18] وقال: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف: 43].
فليس لأحد أن يخرج عن الطريقة الشرعية في إفتاء البرية، فإن الأمر شديد وهو من القول على الله بغير علم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
ومن مفاسد هذه الطريقة أنهم فتحوا الباب للعلمانيين والليبراليين في الانسلاخ عما لا يشتهون باسم المقاصد تارة، وتارة بالاحتجاج بهم في سلوك هذا المسلك المهلك.
والواجب على أهل العلم أن يكونوا للنص متمسكين، ولما دل معظمين، وأن يراعوا فيما يزعموه مصلحة ما يلي:
الأول/ مراعاة فهم السلف، فما زعموه مصلحة وقد أدركه السلف، ولم يعتبروه مصلحه فليس مصلحة معتبرة قطعًا؛ لأنها لو كانت خيرًا لسبقونا إليه، وللأدلة الكثيرة على حجية فهم السلف [3].
الثاني/ ألا يتوسعوا في العلل المستنبطة، فإنها مزلة أقدام ومضلة أفهام، قال الإمام أحمد: «في رواية الميموني: ” يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجْمَل، والقياس” [4]، ولما كان القياس نقل حكم من أصل لفرع لعلة جامعة بينهما كان أئمة الإسلام يتقونه إلا للضرورة بألا يوجد إلا هو، قال الإمام الشافعي: “ونحكم بالإجماع ثم القياسِ وهو أضعف من هذا ولكنها منزلةُ ضرورة لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ ” [5].
الثالث/ ألا يتوسعوا في رد الأدلة بزعم عدم قبول الإجماع، وتارة بزعم أن العبرة بخصوص السبب لا عموم اللفظ، والقول بأن الحكم يخص المعين الذي نزلت الذي نزلت فيه الآية أو ورد بسببه الحديث خلاف إجماع أهل العلم، قاله الرازي [6] وابن تيمية [7].
الرابع/ مما هو مفيد أن يحذر المتكلم في العلم في ألا يحدث قولًا جديدًا، فإن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على خطأ إحداث قول جديد، قال الإمام أحمد: “ إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام ” [8]، وهذا ليس خاصًّا بالإمام أحمد، بل كل العلماء على ذلك إلا الظاهرية.
فمن الشنائع إحداث قول جديد في إنكار جهاد الطلب، وقد ذكر العلامة الشوكاني بأنه معلوم من الدين بالضرورة قال-رحمه الله-: “ أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله رسله وأنزل كتبه ” [9]، ومن ذلك تجويز تهنئة الكفار بأعيادهم أو تجويز حضورها وكلاهما مجمع على حرمته، أو تتبع الرخص، وكل هذا مخالف لإجماع أهل العلم.
الخامس/ عدم التوسع في ادعاء أن المسائل نوازل ليتخلص من الإلزام بفهم السلف؛ فإن ادعاء أن مسألة من النوازل يحتاج إلى برهان واضح في إثبات ذلك، وأنه لا شبه لها في عهدهم إلخ…كما ادعى بعضهم أن مسألة بقاء المرأة التي أسلمت مع الزوج الكافر يعاشرها من النوازل مع أن النهي عنها منصوص، ووقعت كثيرًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده!!
السادس/ليس من علم المقاصد تغير الحكم وتغير الأعراف والعادات في ألفاظ الأيمان والطلاق (غير الصريح) وغير ذلك، فهذه من تغير الألفاظ في الدلالة على معناها.
السابع/ عدم جواز رد الأحاديث الصحيحة بحجة مخالفتها للمقاصد الشرعية، كما زعمه أحد الجاهلين غلوًا ومبالغة في علم المقاصد أو هوى وشهوة وإفسادًا باسم المقاصد!
فإن الحديث الصحيح حجة في نفسه ثم المقاصد تستنبط منه؛ لأن صحته راجعة إلى المقاصد والتي كثير منها مزعومة وفي الميزان مدخولة، ودونكم كتب أهل العلم في علم الحديث من العلماء الشرعيين، هل أجعل أحد منهم من شروط صحة الحديث موافقته للمقاصد الشرعية؟
الثامن/ أنه لابد من التفريق بين المعاني التي من أجلها شرع الحكم وهي المسماة بالعلة، وبين المعاني المفيدة المستفادة من الدليل ولم يعلق بها التشريع، وهي التي سماها بعض الأصوليين بالحِكَم، ومن شك في ذلك عند تنزيله على المسائل الفقهية فليرجع إلى الأصل وهو ما دل عليه اللفظ، ثم إن أصرّ على جعل الحِكم عللًا فليراع الأمور الأخرى من ألا يحدث قولًا جديدًا … الخ ما تقدم.
التاسع/ للعلامة ابن دقيق العيد- رحمه الله- تأصيل إجمالي بديع فيما نحن بصدده، وهو ضابط صحة تقديم المعنى على اللفظ فقال – رحمه الله-: “ فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال أو تخصيص: مردود عند جمع من الأصوليين ” [10] وقال: ” واعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ. ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء. فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسين. وحيث يخفى، ولا يظهر ظهورا قويا. فاتباع اللفظ أولى ” [11].
وهذا مفيد مع مراعاة ما تقدم ذكره من عدم إحداث قول جديد … الخ
العاشر/ ليحذر المتكلم في البيوع والمعاملات من التأثر بالرأسمالية بعد قوتها وطغيانها على التجارات العالمية والقائمة على تقليل نسبة الخسائر في حق التجار أصحاب الأموال بالتساهل في الغرر والجهالة كالتأمين التجاري، والتساهل في بيع ما لا يملك، وبيع الدين بالدين، وبيع الربا، وتجويز العوض على الضمان إلى غير ذلك.
وليحذر هؤلاء غاية الحذر من تتبع الرخص، وإحداث قول جديد لا سلف لهم فيه طمعًا في تحصيل المال أو إرضاء لأصحاب الأموال قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34].
يا أهل العلم إياكم أن تفتنوا بالألفاظ البراقة، والدعايات المبالغة، فيُجوّز ما حرم الله، ويحرف الكلم، وتغير الشريعة، وتبدل، ومن ذلك أن تغير الشريعة وتبدل باسم المقاصد بل وينفخ في علم المقاصد حتى يدرس على وجه باطل مع التعظيم والإجلال عند الأصوليين، فيخيل لأحدهم أنه لا يكون أصوليًا حتى يتابع أهل الرأي في تحريف الكلم وتغيير الشريعة باسم المقاصد، ويزعمون جهلًا أو تدليسًا بأن هذا صنيع أبي إسحاق الشاطبي – رحمه الله -.
اللهم سلمنا ولما يرضيك أعنا، وعلى الصراط ثبتنا.
انظر للفائدة كتاب: (فوائد منتقاة من كتاب الموافقات للشاطبي):
https://www.islamancient.com/ar/?p=36126
د. عبد العزيز بن ريس الريس
1446هـ
____________________________________
[1] الموافقات (5/41).
[2] وانظر للاستزادة كتاب” الكتابات المعاصرة عن المقاصد، إلى أين؟ وقد استفدت منه.
[3] انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/100)
[4] «العدة في أصول الفقه» (4/ 1281) ت: أحمد سير المباركي
[5] «الرسالة للشافعي» (ص599) الناشر: مصطفى البابي الحلبي.
[6] “مناقب الإمام الشافعي” لأبي حاتم الرازي ص170.
[7] «مجموع الفتاوى» (13/ 339).
[8] «مناقب الإمام أحمد» (ص245) دار هجر.
[9] «السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» (ص945).
[10] «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» (1/ 79).
[11] «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» (2/ 114).