«خطابُ التحريض» من المستفيد؟
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبيَّ بعده:
إن الناظر في ما يسمى بواقع الإعلام الجديد، ليجد ألوانا من المخالفات الشرعية للوصايا النبوية فيما يتعلق بأمور متعددة، ومن تلك المخالفات الشنيعة خطاب التحريض الذي يعلو شيئًا فشيئًا، ولا أدري من المستفيد من هذا الخطاب، هل هي الشعوب المسلمة؟ أما دعاة الفتنة والخروج على الحكام؟
إني لا أعجب أن يشارك في خطاب التحريض على الولاة الدهماء والعامة، ولكن عجبي أن يشارك فيه بعض العقلاء ومن يدعي الإصلاح والاحتساب؟ وإني أوجه سؤالًا مهمًا لهؤلاء أين أنتم من قراءة التاريخ الإسلامي؟ ألم تقرؤوا قصة الفتنة الأولى: مقتل الخليفة الراشد العادل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضه؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الاسباب التى أوجبت الفتن بين الناس وبسببه تفرقت الامة إلى اليوم) الفتاوى 2/297.
لقد حرك الثوار خطاب التحريض عليه، وكذبوا عليه، حتى أوقعوا بينه وبين رعيته، ثم تتابعت الأحداث، حتى فجعت الأمه بقتله، وهو يقرأ كلام ربه، صابرًا محتسبًا مظلومًا.
إنه متى ترك خطاب التحريض تتسع دائرته دون ممانعة من أهل العلم والعقل والفكر؛ فارتقب نار الفتنة التي تحرق الأخضر واليابس، ولا تدع بيتًا إلا دخلته.
أين أنتم من النصوص المحكمة عمَّن لا ينطق عن الهوى التي تأمر بالصبر على الأثرة وتحذر من التنافس على حطام الدنيا، لقد قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (إنكم سترون بعدي أثرةً شديدةً فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض). أخرجه البخاري (2978).
وقال صلى الله عليه وسلم :(فو الله ما الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ). أخرجه البخاري(3791).
إن المطالبة بالحقوق المستحقة ليس من سبيله ولا من وسائله المشروعة التحريض على ولاة الأمر والطعن فيهم وإساءة الظن بهم، وسلبهم حقوقهم، إنما تنال الحقوق بالوسائل الشرعية بالصبر والحكمة، وبالنصيحة السرية التي تبنى ولا تهدم، تجمع ولا تفرق، كما قال أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قيل له ألا تكلم عثمان: فقال أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إلا أُسْمِعُكُمْ، والله لقد كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ما دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ من فَتَحَهُ. أخرجه مسلم (2989)
ما الفائدة أن يطعن الناس في ولاة أمرهم ويدعون عليهم ولا يدعون لهم، أليس من أهداف الأعداء الذين يتربصون ببلاد المسلمين الدوائر ـ {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} ـ أن تحدث الفتنة في بلاد المسلمين؟
ألا نتبصر بما حل بأجزاء من بلاد المسلمين من الفوضى وضياع الحقوق وانتهاك الحرمات والأعراض، ألا نحمد الله على نعمة الاجتماع والأمن في الأوطان، ولقد ذكر الله قريشًا وهم في كفرهم بهذه النعمة العظيمة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص57].
هذا الخطاب التحريضي لا يقبل شرعًا ولا عقلًا، وعاقبته وخيمة على المجتمع بأسره، فالواجب على الجميع حكامًا ومحكومين التعاون على البر والتقوى، على حكام المسلمين سياسة الرعية بما يحقق مصالحهم في الدين والدنيا، وعلى الرعية الصبر على ما يقع من ولاة أمرهم، والنصيحة لهم، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد والهداية، والذب عن أعراضهم، كما هو منهج أهل العلم والعقل.
يجب أن لا يقف أهل الفكر والعقل في المجتمع وهم بحمد الله الأكثر في بلاد المسلمين، موقف الحياد من خطاب التحريض، بل ينزلون إلى ميدان التوجيه والنصيحة لهؤلاء المخدوعين والمخادعين، ليقولوا لهم: طريقتكم هذه إنما تخدم الأعداء ولا تحقق الإصلاح الذي تريدون وإنما تخرق السفينة، لتغرق بمن فيها.
لا تنخدعوا بالشعارات التي ترفع محاربة الاستبداد، ورد الكرامة، ومحاربة الظلم، ونحو ذلك؛ ولكن تبصروا في مضامينها، ومالآتها ولا تكونوا ممن يخربون بيوتهم بأيديهم، فالخروج على الأئمة يكون بالكلمة كما يكون بالسيف، ولا خروج بالسيف إلا ويسبقه كلام والفعل يسبقه الكلام، والفتن العظام مبدأها كلام لا يبالي به قائله، وأصل الخوارج رجل قال: «اعدل يا محمد)) ولم يُشْهِرْ سيفًا آنذاك، ثم جاء بعده مَنْ سلك منهجه؛ فكفَّر الصحابة، وقتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان!!
عن هلال بن أبي حميد قال: سمعت عبد الله بن عكيم يقول: لا أُعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان. فيقال له: يا أبا معبد أَوَ أعنتَ على دمه؟ فيقول:إني أعدُّ ذكر مساوئه عونًا على دمه. (مصنف بن أبي شيبة 6/362).
إني على ثقة عظيمة أن أكثر المجتمع ضد خطاب التحريض الذي يُعلي صوتَه المحرِّضون، ولكنه سرعان ما يخفت عندما ينطق أهل العلم والفكر أولي الألباب، فالحقُّ أبلج والباطل لجلج، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فهد بن سعد بن إبراهيم المقرن
الاستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة