رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، نريد حكمها بالتفصيل، ولماذا ليست حسنة دائمًا مع كون السند لم يتغير؟
وجوابًا على هذا السؤال أن يقال: إن الكلام على هذه السلسلة يطول، والبحث فيها طويل، وقد أطال البحث فيها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه “تهذيب التهذيب”، وكذلك من المعاصرين أطال البحثَ العلَّامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى، وذكر بحثًا مفيدًا فيها الذهبيُّ في كتابه “سير أعلام النبلاء”، وغيُر واحد، وأيضًا بحثها شيخ الإسلام عَرَضًا كما في “مجموع الفتاوى”، وابنُ القيم في كتابه “زاد المعاد”، وفي كتابه “أعلام الموقعين”، وتكلم عليه غيرُ واحدٍ من أئمة الحديث.
والكلام على هذه السلسة يطول، لكن أشير إلى مختصرٍ، وهو أن العلماء يحتجون برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، كما قال الدوري: ((ما علمت أحدًا لم يحتج بها)).
لكن ينبغي أنْ يُعلَم أنَّ هناك فرقًا بين التصحيح والاحتجاج، فإن الاحتجاج أشمل؛ يطلق على التصحيح، ويطلق على ذكر الحديث على وجه المتابعة، أي: يحتجون بها على وجه الشواهد والمتابعات.
فالعلماء مُجمِعون على الاحتجاج بها، هذا كلام الدوري، وإنْ كان جاء عن يحي بن سعيد أنه قال: إسناده إسناد واهٍ، وهذا قد يُحمَل -والله أعلم- على انفرادها، لا على أن تكون عاضدةً لغيرها، أو أن يعضدها غيرُها.
فالمقصود أن كلام الدوري رحمه الله تعالى يفيد أن العلماء مجمعون على الاحتجاج بها، وهذا الذي عليه علماء المذاهب الأربعة، وعلي بن المديني، وجماعة من أئمة الحديث، كما ذكر هذا ابن القيم رحمه الله تعالى.
فإذا تبين هذا، وأن الاحتجاج لا يلزم منه التصحيح، بل الاحتجاج أشمل، يشمل التصحيح، ويشمل الاحتجاج على وجه الشواهد والمتابعات، فإنَّ رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قد تُكلِّم فيها مِن جِهاتٍ:
منها: مَنْ هو جَدُّه؟ هل هو محمد؟ وهل الضمير في قوله: “عن جده” يرجع إلى عمرو أو إلى شعيب؟ فإذا رجع إلى شعيب كان جدُّه الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، والذي قرَّره الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه “سير أعلام النبلاء”، وذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كما في “مجموع الفتاوى”، ويدل عليه كلام الحافظ ابن حجر في “تهذيب التهذيب” أنه إذا ذَكَرَ جَدَّه فالمراد به عبد الله بن عمرو بن العاص، إذًا: يكون إسناده متصلًا.
لكن يبقى الكلام في عمرو نفسه، فقد ذكر الإمام أحمد أنَّ عنده روايات منكرة، وذكره غيرُه.
فإذا كان كذلك فأحسن أحواله أن يكون حديثه في درجة الحديث الحسن، ومثل هذا لا يُقبَل إذا انفرد بحُكْمٍ جديدٍ؛ لأنه لا يقوى على الانفراد بهذا الحكم الجديد، بخلاف أن لا ينفرد بِحُكْمٍ جديدٍ؛ فإنه يُحتج به، لذا ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في زكاة الحلي، ثم قال: ((لازال العلماء يتكلمون فيه قديمًا وحديثًا)).
فانفراد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بحديث في زكاة حلي الذهب مثل هذا لا ينفرد به، وله أمثلة.
فإذًا: يختلف حكم حديثه بنوع متنه، إن كان انفرد بحكمٍ جديدٍ فلا يُعوَّل على مثل هذا، وإذا لم ينفرد بحكمٍ جديدٍ فيُقْبَل ما أتي به.
فإذًا: لا يُقبَل مطلقًا، ولا يُرَدُّ مطلقًا، بل يُنظَر إلى المتن الذي أتى به، وهذا مهم في علم الحديث، فإنَّ علم الحديث مبني على النظر في السند والمتن، فلا يُستَقَل بالسند عن المتن ولا بالمتن عن السند، وهذا -والله- أعلم معنى ما قال الإمام أحمد، لما ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاءوا تركوه))، أي: أنهم يترددون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهي، وصدق رحمه الله تعالى، وهذا يرجع- والله أعلم- للاختلاف في نوع المتن.
والكلام على هذا يطول، لكن ينبغي أن ينظر في من كان حديثه حديثًا حسنًا أن لا يُندفع في تصحيح الأحكام الشرعية به إذا انفرد بها، وقد ذكر الذهبي رحمه الله تعالى أن الراوي الصدوق يُتردد في قبول حديثه، قد يُقبَل تارةً، وقد يُرَدُّ تارةً، وذلك بالنظر إلى القرائن، وإلى نوع المتن.
فإذًا: الخلاصة أن الأصل في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه يحتج بها، إما على وجه المتابعات، أو على وجه الاستقلال لكن بشرط ألا تنفرد بحُكمٍ جدِيدٍ على ما تقدم ذكره.
ومما ينفعنا في هذا ما ذَكَرَ النسائي رحمه الله تعالى في رواية سماك بن حرب، قال: ((تُقبل روايته ما لم ينفرد بأصلٍ))، وهذا يدل على أن الحكم على صحة الحديث لا يُستَقَلُّ فيه بالنظر إلى الإسناد، بل ينظر إلى السند وإلى المتن.