سبب نفور بعض أهل العلم من علم المقاصد
أكثر المقاصديين اليوم هم من الحزبيين المؤطرين الذين يدّعون أنهم يتناولون النّصوص في ضوء المقاصد الشرعية، وهم في حقيقة الأمر يتّخذون من هذه الدعوى تُكأة ليتمكنوا عن طريقها من تطويع نصوص الوحيين، وليّ أعناقها، وتوظيفها في خدمة مشاريعهم وأهدافهم .وبرامجهم التي لا تخفى على ذي لُبّ وعينين
وطائفة ممن يرفع شعار المقاصد الشرعية هم أجانب عن علوم الشريعة، غرباء عن مواردها، لا يعرفون نصوصها ولا يفقهون المراد منها، لكنهم جعلوا منها كوّة يتمكنون من الدخول منها لدائرة القول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم.
ليتحقق لهم هدم الشريعة بلسان الشريعة، وليتمّ لهم تحريف الدين من داخل الدين، فقاموا باسم دعوى النظر في روح النصوص وجوهرها بدلا من الجمود على حرفها وظاهرها بالتطريق لاستباحة الفواحش والمنهيّات والتشكيك في الجوازم والقطعيات.
فنفر بعض أهل العلم المعاصرين الذين يراقبون الله ويخافون يوم لقائه ممن يرفع شعار المقاصد ويكثر الدندنة حولها، وأساءوا بكثير منهم الظنون، رغم إيمانهم العميق واعتقادهم الوثيق بأهمية هذا العلم وأنه لاغنى للمتحدث باسم الشريعة عنه، فهو علمٌ من علوم أصول الفقه ومن أهل العلم المعتبرين من عدّه علما قائما بحياله، وذلك لعظيم أهميته وجليل رُتبته.
قلّ في عصرنا أن ترى أحدا ممن آتاه الله العلم الغزير والفهم العميق بالكتاب والسنّة والآثار يعتني بعلم المقاصد الشرعية، فهو يرى في الاشتغال به إضعافا لتديّنه وتوهينا لاتّباعه، فعشنا فصاما نكدا وقطيعة ومدابرة في كثير من الصور والأحوال بين المعتنين بالسنّة والآثار وبين المشتغلين بعلم المقاصد الشرعية.
فالأثريّ يعدّ المقاصديّ متلعبا بالدين متهجما على قدسيّته، فيما يرى المقاصدي صاحبه الأثري جامدا على ظواهر النصوص عاجزا عن إدراك الحقائق والمعاني التي لا يمكن لمن شدا شيئا من علم الشريعة أن يجهلها أو يتجاوزها.
فيما لم يكن من مضى من علماء السنة وأئمتها يعانون هذا التهاجر، فكان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من أعظم العلماء تمسكا بالنصوص وعناية بالآثار وصدورا عن كتب أئمة السنة كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد والرد على الجهمية للدارمي والسنة لابن أبي عاصم والإبانة لابن بطة والشريعة للآجري وغيرها مع عنايتهم العظيمة وإدراكهم الموعب لمقاصد الشريعة إفتاء وتصنيفا، فصنفوا المصنفات وسطروا الدواوين التي سارت بها الركبان، والتي روعي فيها تحقيق المصالح وتعطيل المفاسد وإدراك مراتب الشريعة وأولوياتها ومناطات أحكامها.
والإمام الشاطبي رحمه الله هو من صنف كتاب الموافقات ذلك الكتاب الذي قلّ نظيرهُ في بابه، والذي عُني فيه بإظهار مقاصد الكتاب والسنة والحكم والمصالح الكلية المستكنة تحت آحاد الأدلة وجزئياتها ومفردات التشريع والتعريف بأسرار وحكم التكاليف في الشريعة، وهو نفسهُ من صنّف كتاب الاعتصام، والذي أطنب في طيّه في الدعوة إلى لزوم السنّة والأثر والحذر من التلبس بشيء من البدع والمحدثات مهما تعددت أنواعها، واختلفت بواعثها.
كان العلماء الراسخون يسيرون في هذا المهيع، وينحون هذا المنحى، لا يجدون تناكدا بين كونهم دعاة للزوم السنة والتمسك بالآثار وبين كونهم يلتمسون حكم النصوص ويتلمحون مناطاتها والنظر في أقيستها وعللها والمصالح المعتبرة فيها.
فكون علم المقاصد قد تكلّم فيه من ليس من أهله، واتّخذوا منه دغلا لإفسادهم والتسويغ لمناهجهم، فذلك لا يبرر هجرانه والتودّع منه، بل الواجب على أهل العلم المبصرين لحقيقته المدركين لأهميته أن يُعظّموا مكانته ويرفعوا منزلته، وأن يفضحوا المتلاعبين به ويكشفوا زيوف المندسين تحت عباءته.
كتبه محمد بن علي الجوني