الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي مَوْقِفِ الأَبْطَالِ لِتَلْبِيَةِ نِدَاءِ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَلاَلِ لِدَحْرِ جُيُوشِ الضَّلاَلِ؛ أَمَرَ نَبِيُّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – الصَّحَابَةَ بِالْمَسِيرِ إِلَى تَبُوكَ؛ لِتَأْدِيبِ عَادِيَةِ الرُّومِ وَأَحْلافِهَا حِينَ أَرَادَتِ الْقَضَاءَ عَلَى الدَّوْلَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ النَّاشِئَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ عُسْرَةٍ وَشِدَّةِ حَرٍّ وَقِلَّةٍ فِي الْيَدِ، وَبُعْدٍ فِي الْمَسَافَةِ.
فَاسْتَحَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي هَذَا الْوَاجِبِ بِإِعْدَادِ الْجَيْشِ وَالاِنْضِمَامِ إِلَى كَتِيبَتِهِ الْبَاسِلَةِ؛ فَأَسْفَرَتْ مَوَاقِفُهُمْ عَنْ عَظِيمِ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِيمَانٍ وَصِدْقٍ؛ فسَخَتْ نُفُوسُهُمْ بِالإِقْدَامِ، وَجَادَتْ بِالْعَطَاءِ التَّامِّ.
وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْبَرَرَةِ الصَّادِقِينَ نَفَرٌ لَمْ تُسْعِفْهُمُ الْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ دَاعِي الصِّدْقِ وَالإِقْدَامِ عَلَى أَنْ يَعْتَذِرُوا ، فَجَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – طَالِبِينَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ بُغْيَةَ نَيْلِ شَرَفِ الاِسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ، وَالذَّوْدِ عَنْ حِمَى الدِّينِ، فَأَبْدَى لَهُمُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – اعْتِذَارَهُ؛ لِعَدَمِ مَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى قِيمَةَ النَّعْلِ الَّتِي تَقِي الأَقْدَامَ فِي رِحْلَةِ الْجِهَادِ الشَّاقَّةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: «مَا سَأَلُوهُ الْخَيْلَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا النِّعَالَ!».
فَاعْتَذَرَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – مِنْهُمْ؛ فَاسْتَدَرَّ مِنْهُمُ الْمَدَامِعَ كَفَيْضِ الْمَاءِ النَّابِعِ، مُكْتَفِينَ بِاطِّلاَعِ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ عَلَى مَا قَامَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شَاهِدِ الصِّدْقِ الَّذِي كَانَ انْهِمَارُ الدَّمْعِ أَحَدَ دَلاَئِلِهِ، مُبْدِينَ حُزْنَهُمْ أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُقَدِّمُونَهُ مِنْ نَفَقَةٍ يُسْهِمُونَ بِهَا فِي هَذَا الْجَيْشِ الْفَاتِحِ.
فَكَانَ الْعِوَضُ مِنَ اللهِ خَيْرَ جَابِرٍ لاِنْكِسَارِ قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ الْفِقْدَانِ حِينَ نَفَى عَنْهُمْ حَرَجَ التَّخَلُّفِ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – قَوْلَهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91- 92].
رَجَعُوا إِلَى دُورِهِمْ، وَانشَغَلُوا بِأَحْوَالِهِمْ؛ فَمَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمْ وَهُوَ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَخْرُجَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيُصَلِّي مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ، أَوْ جَسَدٍ، أَوْ عِرْضٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – : «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟»، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ»، فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – : «أَبْشِرْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلةِ!»
[والحديث صححه الألبانيُّ ].
مَوْقِفُ إِجْلاَلٍ وَصِدْقٍ وَإِيمَانٍ لاَ تَصَنُّعَ فِيهِ؛ عَلِمَهُ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ، الَّذِي أَجْرَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يَقُولَ: كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا خلْفَنَا بِالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ ».
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: «قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا -وَاللهِ- بُكَاءُ الرِّجَالِ! بَكَوْا عَلَى فَقْدِهِمْ رَوَاحِلَ يَتَحَمَّلُونَ عَلَيْهَا إِلَى الْمَوْتِ فِي مَوَاطِنَ تُرَاقُ فِيهَا الدِّمَاءُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَتُنْزَعُ فِيهَا رُؤُوسُ الرِّجَالِ عَنْ كَوَاهِلِهَا بِالسُّيُوفِ، فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَى فَقْدِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهِ الْعَاجِلَةِ، فَذَلِكَ شَبِيهٌ بِبُكَاءِ الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى فَقْدِ حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ».
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَصَرِّفْهَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَزِدْنَا يَقِينًا وَتَصْدِيقًا وَهُدًى وَتَوْفِيقًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنْ مِنَّا سَأَلَ نَفْسَهُ: كَمْ مَرَّةً فَاضَتْ فِيهَا عَيْنَاهُ لِفَوَاتِ الطَّاعَةِ؟ إِذْ أَنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ صِدْقِ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ، وَامْتِثَالِهِ لأَمْرِهِ وَالْبُعْدِ عَنْ نَهْيِهِ: الإِحْسَاسَ بِالْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ، وَالشُّعُورَ بِالْحُزْنِ وَالأَلَمِ عِنْدَ فَوَاتِ طَاعَةٍ لَمْ يَسْتَطِعِ الْعَبْدُ لِتَحْصِيلِهَا سَبِيلاً، وَهَذَا مَا يُمَيِّزُ الْمُؤْمِنَ عَنْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ – رحمه الله – : «الْحُزْنُ عَلَى فَوَاتِ الطَّاعَةِ مِنْ ثمَرَةِ حُبِّهَا وَالاِهْتِمَامِ بِهَا؛ لأَنَّ الْمَرْءَ لاَ يَحْزَنُ إِلاَّ عَلَى مَا عَزَّ عَلَيْهِ»
وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: حُزْنُ الْمُسْلِمِ عَلَى فَوَاتِ الطَّاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى حَيَاةِ قَلْبِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، وَاجْعَلُوا قُلُوبَكُمْ مُرْتَبِطَةً بِرَبِّكُمْ؛ عَمَلاً بِطَاعَتِهِ، وَأُنْسًا بِجِوَارِهِ، وَأَمْنًا فِي حِمَاهُ، وَخَوْفًا مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَرَغْبَةً بِمَا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].