فضل أيام عشر ذي الحجة والأعمال المشروعة فيها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من فضل الله تعالى ونعمه العظيمة على عباده أن هيأ لهم المواسم العظيمة والأيام الفضيلة، لتكون مغنمًا للطائعين وميدانًا لتنافس المتنافسين، ومن هذه المواسم ما شهد النبي -صلي الله عليه وسلم- بأنها أفضل أيام الدنيا ألا وهي العشر الأول من شهر ذي الحجة.
فإن الله تعالى فضَّلَها على غيرها من الأيام، قال تعالى: {والفجر وليال عشر} [سورة الفجر: ١-٢]، قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف: (إنها عشر ذي الحجة).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء). أخرجه البخاري والترمذي واللفظ له.
وعنه أيضا -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحي. قيل:ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء). قال الراوي: (وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه). رواه الدارمي وحسنه الألباني في إرواء الغليل (٣/ ٣٩٨).
فهذه الأدلة وغيرها تدل على فضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة من غير استثناء شيء منها حتى العشر الأواخر من رمضان، وإن كانت ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر الأوائل من ذى الحجة.
ولعل الحكمة من تفضيل أيام عشر ذي الحجة على بقية أيام السنة هي ما يحصل في هذه الأيام من اجتماع أمهات العبادة من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية والتكبير، ولا يحصل ذلك في غيرها.
والأعمال الصالحة التي يُشرع للإنسان فعلها في هذه الأيام كثيرة منها ما يأتي:
أولًا: التوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي والتخلص من مظالم العباد وحقوقهم، وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم، وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان، يقول الله عز وجل: {ي اأيها الذين آمنوا توبوا إلي الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يُخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [سورة التحريم: ٨]، وقال سبحانه: {وتوبوا إلي الله جميعا أيها المؤمنون لعكم تفلحون} سورة النور: ٣١].
ثانيًا: أداء مناسك الحج والعمرة، والحج والعمرة يجبان في العمر مرة واحدة، ويسن الإكثار منهما، وقد جاء في فضله أحاديث كثيرة منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة). رواه أحمد والترمذي.
ثالثًا: كثرة ذكر الله عز وجل بالتكبير والتحميد والتهليل والتسبيح وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والأسواق والشوارع وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجل وتخفيه المرأة، إظهارًا للعبادة وإعلانًا بتعظيم الله تعالى.
قال الله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [سورة الحج:٢٧-٢٨].
والأيام المعلومات هي أيام العشر من ذي الحجة لما ورد عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق). رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم [٢/ ٤٥٧مع فتح الباري]، وقال النووي في المجموع (٨/ ٣٨٢) : رواه البيهقي بإسناد صحيح.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) أخرجه أحمد وحسنه العراقي وابن حجر وصححه أحمد شاكر، وانظر ارواء الغليل (٣/ ٣٩٩).
والتكبير في هذا الزمان أصبح من السنن المهجورة -ولا سيما في أول العشر-فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فيستحب الجهر به في مواضعه إحياءً للسنة وتذكيرًا للغافلين، وقد جاء أن ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما-: (كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما). أخرجه البخاري تعليقاً مجزومًا به كما في الفتح (٢/ ٤٥٧)، ورواه موصولًا الفاكهي في أخبار مكة (١٠١٣)، وقال محققه ابن دهيش: إسناده حسن.
وينبغي أن يكبر كل واحد بمفرده، وأما التكبير الجماعي بصوت واحد أو يكبر شخص ثم ترد المجموعة خلفه فلا يجوز؛ لعدم ورود ذلك في الشريعة، والعبادات توقيفية مبناها علي الإتباع لا علي الابتداع.
رابعًا: صيام الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة، لما جاء عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وأول اثنين من الشهر والخميس). رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود(٢٤٣٧).
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال الصالحة؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وحهه عن النار سبعين خريفًا) متفق عليه.
ويتأكد استحباب الصيام في اليوم التاسع من ذي الحجة – يوم عرفة – فقد خصه النبي -صلى الله عليه وسلم- بمزيد من الفضل فعن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: (يكفر السنة الماضية والقابلة) رواه مسلم.
وصيام يوم عرفة إنما يستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسن له صيامه تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أم الفضل بنت الحارث: (أن ناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم:هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه) متفق عليه.
خامسًا: أداء صلاة العيد يوم العيد حيث تُصلي وحضور الخطبة، فعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيًض في العيدين، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلي) متفق عليه، ففي هذا الحديث أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء الشابات واللاتي عليهن الحيض أن يحضرن صلاة العيد، مع أنه فضل صلاة المرأة في بيتها في غير صلاة العيد؛ مما يؤكد أهميتها وآكديتها.
سادسًا: ذبح الأضحية، فهي سنة أبينا إبراهيم الخليل -عليه السلام- حينما أُمر بذبح ابنه، فامتثل لأمر ربه -عز وجل- وسلم وانقاد، لكن الله -سبحانه بلطفه ورحمته- فداه بذبح عظيم.
كما أنها سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فعن أنس -رضي الله عنه- قال: (ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما) متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من وجد سعة فلم يُضح فلا يقربنً مصلانا). رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (٦٤٩٠).
لكن يجب على من أراد الأضحية أن يمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته من بداية دخول شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)، وفي رواية: (فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً) رواه مسلم.
هذا وإن الأعمال الصالحة كثيرة جدًا فاستغلوا أوقاتكم في هذه الأيام القليلة، واعمروها بطاعة الله من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
هذا ما أحببت بيانه، وأسأل الله جل في علاه أن يتقبله وأن ينفع به.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أعده/ أ.د. حمد بن محمد الهاجري
رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت
٢٦/ ذي القعدة/ ١٤٣٦هـ
١٠/ ٩/ ٢٠١٥م
لقراءة المقال بصيغة pdf
http://islamancient.com/ressources/docs/785.pdf