كشف الغطاء
عن أخطاء مبيح الغناء
توطئة
لو قُدر أن أحد المتعالمين ألّف رسالة أسماها: “إتحاف الإخوة بإثبات حرمة القهوة”! ونشرها في الآفاق، وقد حلّاها بسوْق جملة من أسماء العلماء الذين نصوا على حرمتها؛ مستدلا بكونها في عرفهم وفي لغة العرب تعني الخمر وليس قهوة البُن! ولم ينس أن يضمن تسويداته غمزا ولمزا في أهل العلم المعاصرين لإباحتهم لها، واصما إياهم بالإصابة “بجرثومة الإباحة” .. فما الذي سيقوله أي عاقل؟
لا أشك أنه سيقول: هذه الأوراق لا قيمة لها. نعم؛ القهوة في لغة العرب هي الخمر، وهكذا هي في عرف المتقدمين؛ ولكن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني؛ وهذا المتعالم قد عمد إلى مصطلح قديم وسلطه على أمر حادث؛ وهذا مسلك مردود.
وهذا القدر كافٍ في نقض بنيانه الذي يروم تشييده.
إن المثال السابق يقرّب فهم الواقعة التي ذاعت هذه الأيام؛ حيث سوّد الشيخ عادل الكلباني مقالا وسمه بـ: “تشييد البناء في إثبات حل الغناء” ومسلكه فيه مسلكُ ذاك المتعالم سواء بسواء .. فقد حمل كلام السلف في إباحة الغناء على الغناء المعاصر الذي أباحه هو (بكل أحواله)؛ وهو حملٌ للنصوص وآثار السلف على اصطلاح حادث؛ وهو مسلك خاطئ مُوقع في الزلل.
وإني لأزعم أن بين الغناءين من الاختلاف في الحقيقة أكبر مما بين القهوتين!
بل إني أقول: إن حال ذاك المتعالم أهون وجرمه أخف؛ فإنه لم يضف إلى خطئه العلمي الجسيم نفي الثابت وإثبات المنفي؛ فلم ينفِ وجود التنصيص على مذهب مخالفيه في تبويبات الكتب الستة وغيرها من كتب الإسلام؛ والواقع خلاف ذلك.
كما أنه لم يتجنّ على أهل العلم فينسب إلى طائفة منهم ضد ما كتبوه بأيديهم؛ وهو كذب صريح عليهم.
كما أنه لم يسلك في استدلالاته مسالك أصولية مخترعة أو ضعيفة يأنف من الوقوع فيها صغار طلبة العلم.
كما أنه قد نأى بنفسه عن التناقض؛ فلم يورد فيما يستشهد به نقولا تنقض مذهبه أو تضعفه.
وهذه السقطات -وغيرها- قد وقع فيها الشيخ عادل الكلباني -عفا الله عنه- كما سيتضح خلال الأسطر القادمة. وإني لأؤمل أن ينظرها بعين الإنصاف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على عبده ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن مما شاع هذه الأيام مقال للشيخ عادل الكلباني أسماه: “تشييد البناء في إثبات حل الغناء” وهو منشور في موقعه، ونُشر مجمله في صحيفة المدينة (17225/ 9 رجب 1431هـ)، خلص فيه إلى (أن الغناء حلال كله، حتى مع المعازف، ولا دليل يحرمه من الكتاب والسنة).
وهذه الرسالة هي خاتمة آرائه المتذبذبة في هذه المسألة التي أشغل بها الناس في وسائل الإعلام منذ حقبة من الزمن، حتى لكأنها قضية مصيرية للأمة، ورأي فضيلته هو الحد الفاصل فيها، والذي يتلهف الناس إلى معرفته!
وإن من دلائل دين المرء وورعه وعقله أن يتحاشى الفتوى الخاصة وهو مكفي بغيره؛ فكيف بما تحمله الركبان؟
والشيخ عادل فيما كتب قد عرض عقله، وأبان عن مبلغ علمه، ومن المشهور عند الأدباء: لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتاباً. وقد قيل: من ألف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف.
وإذا وُزن ما كتبه -وفقه الله- بميزان الإنصاف، ووضع على محك النقد العلمي كانت النتيجة أنه قد خاض في غير ما يحسن، وأساء لنفسه ولغيره، وأوقع العامة في لبس من دينهم؛ فقد تضمن كلامه خلطا لا يليق أن يقع فيه؛ من إخلال بالقواعد العلمية، وتعسف في الاستدلال، وأسوأ ذلك التجني على أهل العلم وإلصاق الكذب الصريح بهم، وتقويلهم ما لم يقولوه، وهذا ما سيتبين بعون الله فيما يأتي.
ولولا اللبس الحاصل على الناس بسبب التلبيسات الجديدة لكان الإعراض عما يُنشر واطراحه هو المتحتم، لكن ما الحيلة وقد كثر الخلط في أبواب العلم؛ ولم يكد يمر يوم حتى يُفجع المسلمون في وسائل الإعلام بزوبعة جديدة في قضية شرعية؛ يقع كثير من الناس بسببها في إشكال وشك، وإلى الله المشتكى.
فالله أخر مدتي فتطاولت حتى رأيت من الزمان عجائبا
وسأجعل هذه المناقشة في وقفات، وبالله أستعين:
الوقفة الأولى: لا يخفى أن من الصفات المرذولة: لَبس الحق بالباطل (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، وأحسن أحوال الواقع فيه أن يكون جاهلا، وما أحراه حينئذ أن يكف مداده ويكسر قلمه لئلا يؤذي عباد الله.
والتلبيس الحاصل ههنا من الشيخ عادل -آتاه الله رشده- هو في تحديد ماهية الغناء الذي صرخ بأعلى صوته مناديا بحله.
إن أي منصف رام الخوض في هذه المسألة يلزمه أن يحرر ما يأتي:
ما حقيقة الغناء في لغة العرب ولسان السابقين؟
ولمَ قال بعضهم بحله وبعضهم بكراهته؟
وهل يصح تنزيل قول المبيحين منهم للغناء على الغناء المعاصر؟
وهل من أباحه منهم -على المعنى الذي قصدوه- أباحه مع المعازف أم مجردا عنها؟
وهل ما ورد من إباحة (الدف) كان عاما أو مخصوصا بأحوال معينة؟
وهل إباحة الدف يلزم منها إباحة سائر أنواع المعازف؟
أما الشيخ عادل فقد جعل الغناء بمعناه المعاصر داخلا في اصطلاح السلف، وأوهم أن من أباحه منهم أباحه مع المعازف، وجعل إباحة الدف عامة، وألحق آلات المعازف جميعا بهذا الحكم .. وقد جانب الصواب في كل هذا!
وسأوضح المقام بعون الله فيما يأتي:
أولا: إن الغناء في لغة العرب وفي عرف علمائنا السابقين لم يكن إلا رفع الصوت بكلام ملحن خالٍ عن المعازف وآلات الطرب. قال ابن حجر في فتح الباري (10/543): (الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة). وعرفه المناوي في فيض القدير (6/320) بأنه: (رفع الصوت بنحو شعر أو رجز [وفي الأصل: زجر] على نحو مخصوص).
وقد يُطلَق على مجرد رفع الصوت وموالاته، قال الخطابي في غريب الحديث (1/656): (فكل من رفع صوته بشيء ووالى به مرة بعد أخرى فصوته عند العرب غناء)، ونحوه في النهاية لابن الأثير.
ومن أباح الغناء من أهل العلم السابقين فمراده الترنم بكلام مباح، ومن كرهه أو منع منه فمراده الإكثار منه، أو الترنم بما اشتمل على باطل.
قال الإمام أحمد: (الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم) (نقله ابن رجب في فتح الباري 6/83).
وقال ابن حبان في صحيحه (13/187): (ذكر البيان بأن الغناء الذي وصفناه إنما كان ذلك أشعارا قيلت في أيام الجاهلية فكانوا ينشدونها ويذكرون تلك الأيام، دون الغناء الذي يكون بغزل يقرب سخط الله جل وعلا من قائله). وقال في (13/189): (ذكر البيان بأن الغناء الذي كان الأنصار يغنون به لم يكن بغزل لا يحل ذكره).
وقال الطبري عن نشيد الأعراب في السفر: (وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غُنّي به في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذي كان السلف يجيزون ويسمعون) (نقله ابن بطال في شرح البخاري 4/560).
وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/197) بعد أن تكلم عن غناء الركبان والحداء: (هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء … وقد حدا به صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن رواحة وعامر بن سنان وجماعة؛ فهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء؛ إذا كان الشعر سالما من الفحش والخنى، وأما الغناء الذي كرهه العلماء فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به طلبا للهو والطرب، وخروجا عن مذاهب العرب، والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء هم كرهوا هذا النوع من الغناء، وليس منهم يأتي شيئا وهو ينهى عنه).
وقال ابن الأثير (3/392): (وفي حديث عائشة (وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث) أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بُعاث -وهو حرب كانت بين الأنصار- ولم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو واللعب، وقد رخص عمر في غناء الأعراب وهو صوت كالحُداء).
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم (2/534) تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق: (وليستا بمغنيتين): (أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يُحرِّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرِّك الساكن ويبعث الكامن. وهذا النوع إذا كان في شعرٍ يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات: لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما يسلم من تلك المحرمات فيجوز القليل منه، وفي أوقات الفرح؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة).
وقال الخطابي في أعلام الحديث (1/591) تعليقا على هذا الحديث: (وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الحرب والشجاعة والبأس وما يجري في القتال بين أهله، وهو إذا صُرف إلى جهاد الكفار وإلى معنى التحريض على قتالهم كان معونة في أمر الدين وقمعا لأهل الكفر، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأما الغناء بذكر الفواحش والابتهار بالحُرم والمجاهرة بالمنكر من القول فهو المحظور من الغناء المسقط للمروءة، حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يجري شيء من ذلك بحضرته فيرضاه ، أو يغفل النكير لهُ) إلى أن قال: (فأما الترنم بالبيت والبيتين وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيهِ فحش أو ذكر محظور فليس مما يسقط المروءة أو يقدح في الشهادة، وكان عمر بن الخطاب لا ينكر من الغناء النَّصْب [وهو شبيه الحُداء] والحُداء ونحوهما من القول، وقد رخص في ذلك غير واحد من السلف رحمهم الله. وحكم اليسير من الغناء بخلاف حكم الكثير منه).
وقال ابن رجب في فتح الباري (6/82): (وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى؛ فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور؛ فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة … ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به).
هذه طريقة الراسخين من أهل العلم في فهم النصوص وكلام السلف وتوجيهه، وبهذا يظهر أن حكاية الخلاف في هذه المسألة ليس كما قد يُظن، وبالتوجيه السابق ترجع جل الأقوال إلى وفاق؛ ويجتمع شمل ما ورد في هذا الباب كما أشار إلى هذا أبو العباس القرطبي في المفهم (3/535).
ثانيا: أما المعازف وآلات الطرب فلها حكم مستقل هو أنها في الجملة محرمة، سواء اقترنت بغناء أو لم تقترن، وهي قضية مجمع عليها بين أهل العلم المعتد بهم، ولا يستثنى من ذلك إلا الدف للنساء في الأعراس والعيد ونحو ذلك، وبعضهم قد ترخص في الدف خاصة فجعل الرخصة فيه عامة، والجمهور على المنع، والحجة معهم دون شك.
قال البغوي في شرح السنة (12/383): (واتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف).
وقال ابن قدامة في المغني (12/457) 🙁 وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشَّبَّابة فلا قطع فيه … ولنا أنه آلة للمعصية بالاجماع).
وقال النووي في روضة الطالبين (8/205): (المزمار العراقي وما يُضرب به الأوتار حرام بلا خلاف). وقال ابن رجب في فتح الباري (2/83): (وأما استماع آلات الملاهي المطرِبة المتلقاة من وضع الأعاجم؛ فمحرمٌ مجمع على تحريمه، ولا يُعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يُعتد به فقد كذب وافترى). وقال في كتابه نزهة الأسماع (60): (وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي في كتابه اختلاف العلماء اتفاق العلماء على النهي عن الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي؛ فإنه لا يُعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها، إنما يُعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به).
وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (306 – ملحق بكتابه الزواجر ج2) عن آلات اللهو والمعازف: (هذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافا فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه هداه وزلّ به عن سنن هداه، وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي وهو الثقة العدل … وممن نقل الإجماع على ذلك أيضا إمام أصحابنا المتأخرين: أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي).
هذا نزر يسير من النقول التي حكت الإجماع على تحريم المعازف، ولولا خشية الإطالة لسقت عشرات النقول الأخرى.
والحجة في هذا الباب التي انبنى الإجماع عليها: نصوص صحيحة صريحة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام -كما عند البخاري في صحيحه-: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، ودلالته على التحريم أظهر من أن يطال في تقريرها، وهو حديث ثابت دون شك، صححه جم غفير من الأئمة والحفاظ.
وقد حاول الشيخ عادل التشكيك في ذلك فقال: (فعلى هذا فإن الذي أدين الله تعالى به هو أن الغناء حلال كله، حتى مع المعازف، ولا دليل يحرمه من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم … وكل حديث استدل به المحرمون إما صحيح غير صريح، وإما صريح غير صحيح). كما ذكر (أن الله تعالى لم يشر إلى الغناء ولو إشارة بتحريم). وقال: (ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له)، وجعل النصوص المحرمة من المشتبهات.
وهذا وذاك منه مجازفة؛ وهؤلاء العلماء أتقى لله وأعلم بدينه من أن يحكوا الإجماع على ما لا دليل عليه، بل العكس هو الصواب؛ فما يحتج به القائلون بالجواز هو الذي يستحق الوصف الذي ذكره الشيخ عادل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاستقامة: (1/289) في بيان حقيقة حجج المخالفين للإجماع في هذا الباب: (ومدار الحجج في هذا الباب ونحوه: إما على قياس فاسد، وتشبيه الشيء بما ليس مثله، وإما على جعل الخاص عاما، وهو أيضا من القياس الفاسد، وإما احتجاجهم بما ليس بحجة أصلا). وهذا ما وقع فيه الشيخ عادل تماما! فالحجة الصريحة عنده: حديث عائشة المرفوع: (هذه قينة بني فلان … أتحبين أن تغنيك؟) وهذا الحديث لا تختلف دلالته عن حديث الجاريتين؛ فالغناء إنما كان بكلام مباح كما قال أهل العلم (انظر: الفروع 4/346)، وهل يظن أن هذا الغناء كان كغناء هذا الزمان؟ هل يقول عاقل هذا؟
وأما قوله: (أتراه يعلم أنها مغنية ولم ينهها عن الغناء ولم يحذر من سماعها) فهذا غاية ما عند الشيخ عادل!
لقد أخطأ الشيخ عادل حين جزم بأن (قينة) هنا بمعنى (مغنية)؛ إذ الأصل في معنى (قينة): أمة؛ قال الجوهري في الصحاح (7/36): (الأمة: قينة، وبعض الناس يظن القينة المغنية خاصة، وليس هو كذلك).
وهب أن (قينة) هنا بمعنى مغنية؛ فهي جارية تحسن الغناء المباح، وعرفت به بين أترابها ومجتمعها، وتغني لهن في حدود المأذون شرعا كالأعراس ونحوها؛ فأي محذور في هذا؟ فهل توهم -هداه الله- أنها من جنس مغنيات هذا الزمان، ويصدر منها ما يصدر من مطربات اليوم؛ حيث تغني إحداهن بين الرجال بأخبث الكلام وأقبحه، وتهتز وتتمايل بينهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يطلع على هذا ويرضى به؟! أهذا الذي يريد صاحب الوريقات أن يقنع الناس به؟ إن كان هذا مبلغه من العلم فحري أن يسقط الخطاب معه والمحاورة، وأن يذكر بالله تعالى لعله يتوب من هذه الزلة الشنيعة.
أما الأدلة على تحريم المعازف والغناء الماجن عند أهل العلم فصحيحة صريحة بحمد الله؛ ولو قُدر علم السلف حق قدره لما قوبلت الإجماعات التي ينقلها العلماء الأثبات بمثل ما يغمز به الشيخ عادل أهل العلم؛ ولما قوبلت تفاسير السلف بذلك؛ فإن في كتاب الله بيان التحريم، على ما فسره به كثير من السلف الصالح. قال القرطبي في تفسيره (14/51) عند قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) الآية: (هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه، والآية الثانية قوله تعالى: (وأنتم سامدون) قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية؛ اسمدي لنا: أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال مجاهد: الغناء والمزامير). ومن أراد الاطلاع على كلام المفسرين من السلف فمن بعدهم فليطلبه في مظانه.
فعمن تُتلقى الأحكام ويؤخذ العلم إن كان كلام أهل العلم وتفسيرهم مطّرح؟
وأما السنة فأحاديث النهي عن المعازف والغناء المذموم متعددة ثابتة، والأحكام على الأحاديث تؤخذ من فرسان هذا الفن؛ والمؤلفات الجامعة لذلك وما يلتحق بها من آثار الصحابة كثيرة، ولست في مقام سرد الأدلة؛ فذاك شيء قد فرغ منه أهل العلم من قديم؛ وإنما المقصود التعليق على ما نُشر في تلك الوريقات فحسب؛ ومن كان طالبا للفائدة فليرجع لكتاب ابن رجب، أو غيره من كتب السابقين، أو لكتاب الشيخ الألباني (تحريم آلات الطرب) وأمثاله من كتب العلماء المتأخرين.
ثالثا: إباحة الدف في أحوال مخصوصة -كما سبق- استثناء من الأصل الذي هو منع آلات اللهو؛ فلا يُتجاوز في الترخيص موضعه، وهذا ما تدل عليه السنة؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام أقر أبا بكر رضي الله عنه حينما انتهر عائشة رضي الله عنها -كما في الصحيحين- لما دخل عليها يوم العيد وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف وقال: (مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم!)، وهذا -كما يقول أبو العباس القرطبي-: (إنكارٌ منه لما سمع، مستصحبًا لما كان تقرر عنده من تحريم اللهو والغناء جملة؛ حتى ظن أن هذا من قبيل ما يُنكر، فبادر إلى ذلك … وعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما)، ثم علل الإباحة بأنه يوم عيد؛ يعني أنه يوم سرور وفرح شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا) (المفهم 2/534). وقال ابن رجب في فتح الباري (6/81): (وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد. وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف “مزمور الشيطان”، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع).
وفي المسألة دلائل أخرى أدعها طلبا للإيجاز، لكني أختم هذا الموضع بتنبيه الشيخ عادل: ماذا تصف انتهار أبي بكر رضي الله عنه وإنكاره إنشادا بريئا لجاريتين صغيرتين بكلام عري عن الفحش؟
أعيذك بالله أن تصفه بالإصابة “بجرثومة التحريم” كما وصفتَ طائفة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا.
رابعا: الاستثناء العارض للدف من أصل التحريم لا يدل على جواز غيره من آلات اللهو والمعازف في الحالات المستثناة، فضلا عن الجواز المطلق.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/443): (ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه).
وهذا بيّن يُدرك بأدنى تأمل، وقد أجاد ابن رجب رحمه الله في تقرير هذا المعنى حيث قال في فتح الباري (6/77-79): (ولا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ليس فيها جلاجل … فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص لهم في أوقات الأفراح كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار وما كان في معناها، فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة على طريقة الموسيقى، بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل -وروي عنه مرفوعا- وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم، فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا، وغناء الأعراب المرخص به ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة؛ فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا، وإنما هي قضايا أعيان وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم. وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب؛ فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب. وقد صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم).
ورحم الله ابن رجب؛ كيف لو أدرك زماننا واطلع على غنائه وآلاته، ومن يجادل ليثبت حله!
وبعد كل ما سبق يُسأل الشيخ الكلباني: هل الذي أباحه السلف هو هذا الغناء المعهود اليوم الذي لا ينفك عن المعازف البتة، ولا عن قول الفحش غالبا؟
وهل هذا هو الذي عناه عمر رصي الله عنه -وقد احتججت به- حينما قال: (الغناء زاد الراكب)؟
هل غناء المطربين والمطربات اليوم من أهل الفسق أو الكفر هو الذي سمعه عمر رضي الله عنه من رجل بفلاة من الأرض وهو يحدو بغناء الركبان فقال ما قال؟!
إن حمل الشيخ عادل كلام السلف في الغناء على الغناء المعاصر الذي أباحه (بكل أحواله) هو حمل للنصوص وكلام السلف على اصطلاح حادث؛ وهو مسلك خاطئ موقع في الزلل، بل الضلال.
الوقفة الثانية: من عجيب أمر الشيخ عادل أنه قد ضمّن بعض النقولات التي استشهد بها على حل الغناء ما ينقض مذهبه الذي فتح فيه الباب على مصراعيه حين قال: (الغناء حلال كله، حتى مع المعازف)! وهو خبير بما عليه حال الغناء اليوم، ولا يخفاه كيف طار كثير من الشباب والفتيات بكلامه فرحا وتناقلوه فيما بينهم؛ لأنهم فهموا حل الغناء الذي يعرفونه ويدمنون استماعه، ولا شك أنه مقصود الشيخ عادل؛ فهو ابنُ واقعه ومجتمعه؛ فأين هو عن هذا القيد الذي أورده ضمن ما أورد من نقولات؛ كمثل قول عطاء: (لا أرى به بأسا، ما لم يكن فحشا)، وقول أبي بكر عبد العزيز: (مباح، ما لم يكن معه منكر)؛ فأي فحش أعظم، وأي منكر أشنع مما احتوته الأغاني في حالها المعلوم اليوم لدى الصغار والكبار؛ من إلهاب للغرائز، وتأجيج للكوامن، ونشر للرذيلة، ودعوة للفاحشة، وصد عن ذكر الله، وتعلق بالفسقة، بل الكفرة؟!
ومن نازع في احتواء الغناء على هذه المنكرات فعلى عقله العفاء؛ ثم يأتي الشيخ الكلباني متجاوزا هذا، رافعا صوته بكل ثقة: (فعلى هذا فإن الذي أدين الله تعالى به هو أن الغناء حلال كله، حتى مع المعازف)!
فأين الدين؟ وأين العلم؟ بل أين العقل؟ فلا إخال عاقلا تخفاه مفاسد الغناء الحديث وآثاره القبيحة؛ ودونك مدمني الغناء؛ سلهم عما يجدونه في قلوبهم من قسوة باستماعه، وكيف أنهم يجدون فعله في النفوس أعظم من حُميّا الكؤوس.
ولو لم يرد في الكتاب والسنة دليل واحد على منع هذا الغناء لكانت مقاصد الشرع التي لا يجهلها أحد كافية في الحكم بمنعه.
أفلم يرمق الشيخ عادل يوما مجموعة من الشباب وقد اجتمعوا على استماع “موسيقى” صاخبة، أو أغنية عاطفية مثيرة، وكيف أنهم أصبحوا بفعلها إلى المجانين أقرب منهم إلى العقلاء؛ أفتأتي شريعة محمد عليه الصلاة والسلام بإباحة هذه الحال القبيحة؟ أهكذا أراد الله من عباده المؤمنين أن يكونوا؟
ألا إن من أعضل المعضلات إيضاح الواضحات.
ويا لله العجب؛ نبينا عليه الصلاة والسلام يقول -كما في الصحيحين-: (رويدا يا أنجشة، لا تكسر القوارير) فهو -على ما اختاره البخاري والهروي وعياض والخطابي وابن قتيبة وابن الجوزي وغيرهم في توجيه الحديث- يخاف الفتنة على النساء من سماع نشيد مجرد لحادٍ يحدو إبلا؛ فيأمره بالكف؛ لأن الصوت الحسن يحرك النفوس ويوقع في القلوب الفتنة؛ فكيف بأغاني الخنا المعاصرة وآلاتها الصاخبة؟
الوقفة الثالثة: لا ينازع عاقل في أن شرط من يتصدى للخوض في أحكام الشرع تحليلا وتحريما أمران: الأهلية العلمية، والتحلي بالأمانة والإنصاف.
ولا أظن من قرأ وريقات الشيخ عادل إلا ويجد نفسه في حيرة من أمره تجاه ما يقرأ؛ فهو -أصلحه الله- لم يتحلَّ بالأول، وأخل بالثاني، وهذا ما ستكشفه هذه الوقفة وما بعدها بعون الله.
وسأكتفي هنا بمثال: قال الشيخ عادل: (ومن دلائل إباحته [الغناء] أيضا: أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصا بذلك، فلو قرأت الكتب الستة لن تجد فيها باب تحريم الغناء أو كراهة الغناء أو حكم الغناء، وإنما يذكره الفقهاء تبعا للحديث في أحكام النكاح وما يشرع فيه …).
فيا عجبا؛ هل قرأ هو الكتب الستة -أو تبويباتها على أقل تقدير- قبل أن يصدر هذا الحكم النافي القاطع؟ إن كان لم يقرأ فهي مصيبة، وإن قرأ فالمصيبة أعظم!
فما قوله فيما يأتي: قال أبو داود رحمه الله في سننه (4/433): (باب في النهي عن الغناء)
وقال في (4/434): (باب كراهية الغناء والزمر).
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه (1/611): (باب الغناء والدف) وأورد تحته -ضمن ما أورد- حديث ابن عمر الذي فيه وضع الإصبعين في الأذنين لما سمع صوت طبل.
وأورد في (2/733) حديث أبي أمامة: (نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن) تحت باب: (ما لا يحل بيعه).
وقال البخاري في صحيحه (10/563 مع الفتح): (باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه). والحداء نوع من الغناء.
ولو أردت أن أستزيد في النقل الكثير عن كتب الإسلام ودواوين السنة لفعلت.
فماذا سيقول الشيخ عادل بعد هذا؟
وهل هذا هو التحقيق العلمي الذي دفعه لنصرة القول بالإباحة والرجوع عن التحريم؟
الوقفة الرابعة: لعل الشيخ عادلا قد انفرد بمسلك فريد في إثبات الأحكام؛ ألا وهو: جعل تبويبات المحدّثين دليل إثبات الأحكام، وانتفاءها دليل نفيها! كما سبق الحديث عن ذلك.
وليس هذا الخطأ الأصولي الوحيد؛ فإن له أخوات؛ من ذلك أنه ينحى إلى الاحتجاج بالخلاف؛ حيث يقول -أصلحه الله-: (فوجود الخلاف فيه [أي الغناء] دليل آخر على أنه ليس بحرام بيّن التحريم).
وبغض النظر عن عدم التسليم بأن الغناء المعهود ليس محل خلاف، وأنه مجمع عليه ومن خالف فيه فخلافه لا عبرة به – فإنني أقول: إن الاحتجاج بالخلاف وجعله ذريعة إلى التهوين من المسائل مسلك ساقط، ولا دليل عليه، وهل يحتاج الشيخ عادل إلى أن يُسرد له قائمة من المسائل التي وقع فيها خلاف مع أن التحريم فيها بيّن والحجة صريحة؟ أو أن يساق له كلام أهل العلم في عدم اعتبار الخلاف حجة؟
ومن غرائب الشيخ عادل الأصولية أيضا: أنه يجعل حشد النصوص على تحريم الغناء من هنا وهناك من الدلائل على أنه ليس بالمحرم الجلي الواضح!
ويكفي اعترافه بأنها “نصوص”؛ فما العيب على أهل العلم في حشدها بيانا للحق وتقوية لبراهينه؟
وما ذنبهم إذا حالت ضحالة العلم عند بعض الناس دون إدراك جلائها ووضوحها؟
وما حيلتهم إذا لبس زي العلماء من ليس منهم، وأضحى يُلبس على الناس دينهم؛ أليس من واجبهم حشد الأدلة لنصرة الحق وتزييف الباطل؟
ومن غرائب الشيخ عادل أيضا في منهج الاستدلال ما سطره في افتتاح وريقاته، وخلاصته: أن محبة الصوت الحسن من الغريزة الإنسانية التي لا يمكن أن تأتي الشريعة بمحاربتها؛ ويريد أن يفرع على هذا حل الغناء! وغفل -هداه الله- عن أن المنع في الغناء لم يكن كبحا للغريزة، وإنما لوجود معارض أرجح؛ وهو ما يتضمنه هذا الغناء من منكر أو ما يؤدي إليه من منكر.
ولو طرد أحد حجته هذه فقال: رؤية الصورة الحسنة من الغريزة الإنسانية، ومما تستريح له النفس وتنشرح، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بمنع مثل ذلك! وفرّع على هذا جواز رؤية صور النساء الأجنبيات الحسان وشعورهن ونحورهن وسائر مفاتنهن؛ فما جوابه عند الشيخ عادل؟ علما بأن كل ما سيجيب به سيُقلب حجة عليه في قوله!
على أن ما ذكره -عفا الله عنه- مغالطة مكشوفة؛ فسماع الأصوات الحسنة لم يمنع مطلقا؛ وإنما المنع من سماع مخصوص -كما جاء المنع من رؤية مخصوصة وشراب مخصوص- حسما لذريعة الشر، وحفظا لسلامة القلب؛ فإن الغناء رقية الزنا.
الوقفة الخامسة: سرد الشيخ عادل قائمة طويلة غريبة ممن زعم أنهم قائلون بجواز الغناء، أو الغناء مع المعازف.
وهذا السرد فيه خلط عجيب، وصاحبه فيه كحاطب ليل يخبط خبط عشواء.
وما أصدق ما قاله الهيتمي في كتابه كف الرعاع (312): (شأن هؤلاء المنتصرين لحل ما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ووارثيه أنهم يكتفون بمجرد حكاية يجدونها في كتاب من غير بحث منهم عمن رواها، ولا عن مدلولها ومعناها … ولا منكر أقبح ممن يريد أن يحلل ما أجمع العلماء على تحريمه، ويوقع العامة وغيرهم في العمل به وسماعه، غافلا عما يترتب عليه من الإثم والعقاب، عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه، آمين).
إن من المتقرر أن من أراد أن يستشهد بكلام أهل العلم فعليه أولا أن ينتقي من يُقتدى به ويُعتد برأيه؛ فإن مسائل الحلال والحرام إنما تؤخذ عن أئمة الاجتهاد المبرزين في علوم الشريعة، مع الديانة والورع.
ثم عليه ثانيا أن يثبت صحة النقل عمن ينقل عنه.
وقد أخلّ الشيخ عادل بالأمرين؛ فقد فرح بما وجده في كتب التاريخ والأدب من مادحي الغناء والمعازف أو المشتغلين بذلك، ثم ساق أسماءهم إلى الناس ليقول: هاكم الذين أباحوا الغناء قبلي!
ومتى كانت كتب الأدب والتاريخ مرجعا في مسائل الحلال والحرام؟
ثم إن هؤلاء الذين ساق أسماءهم أصناف:
الأول: أهل سياسة وأدب، أو ندماء الولاة، أو من كان من خاملي الذكر؛ الذين ليسوا من أهل العلم، ولا من الذين يلتفت إلى وفاقهم بله خلافهم، ومهما استكثر الشيخ عادل منهم أو أضفى عليهم ألقاب الثناء والمدح فلن ينفعه ذلك شيئا عند أهل العلم، وإن كان قد يُخدع بذلك الأغمار.
ولو شاء معارضه أن ينقل عن عدد كهؤلاء بل وأضعافهم ممن حُشيت بهم كتب الأدب والتاريخ ممن مدحوا الخمر أو معاشرة المردان لفعل!
أفيريد الشيخ عادل أن ينقض الإجماع الذي نص عليه الراسخون من أهل العلم بأمثال هؤلاء؟!
والصنف الثاني: من يترخص في السماع البدعي ويشارك فيه أهل البدع الذين يتدينون به -كما نقله عن ابن الدجاجي، وأبي مروان القاضي-.
وإني لآسف أن يوقع حبُ الانتصار الشيخَ عادلا في هذا الأمر؛ فهل يوافقهم على ما هم عليه؟
فإن كان الجواب بالإثبات فهي مصيبة، وإن كان بالنفي فما فائدة هذا النقل عنهم إذن؟
والصنف الثالث: علماء أثبات؛ لكنه لم يحقق في شأنهم ثلاثة أمور:
الأول: ثبوت النقل عنهم؛ وهو مطالب بذلك، وإلا فالاستشهاد بهم لا يستقيم.
والثاني: أن يثبت أنهم يبيحون الغناء المحرم لا الحلال؛ إذ الغناء الحلال كما سبق قد نُقل الاتفاق على حله؛ وليس هذا محل البحث.
والثالث: أن يثبت أن ما ينقله عنهم هو مذهبهم؛ فبعض ما ينقله عنهم إنما هو وقائع أعيان لا يثبت بها مذهب العالم؛ كما نقل عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو! فكان ماذا؟ أين الدليل على أنه كان يرى حل ذلك؟ فهو غير معصوم؛ وقد يفعل المرء المحرم وهو يعلم تحريمه لغلبة هواه، وقد لا يكون المنهال عالما بما حصل في بيته، أو غير موجود فيه أصلا! ولذا لما قال شعبة لوهب بن جرير -كما عند العقيلي في الضعفاء (4/236)-: (أتيت منزل المنهال بن عمرو فسمعت صوت طنبور فرجعت ولم أسأله؛ قال له وهب: هلا سألته؛ فعسى كان لا يعلم!). قال ابن القيم تعليقا على هذه القصة في حاشيته على مختصر سنن أبي داود (13/64): (وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره ولا إذنه ولا علمه). وقال الشيخ الألباني: (ومنه يتبين أنه لا يجوز حشر المنهال هذا في زمرة القائلين بجواز الاستماع لآلات الطرب فضلا عن استعمالها؛ لاحتمال أنه وقع ذلك دون علمه أو رضاه) (تحريم آلات الطرب 104).
وسيأتي عن قريب نماذج لما اشتملت عليه الوريقات من الكذب الملصق بأهل العلم.
الوقفة السادسة: اعتمد الشيخ عادل في كثير مما ساق -أو أكثره- على ابن طاهر المقدسي والأدفوي، وقد نعت الأول بالإمام الحافظ، والثاني بأنه من أئمة الشافعية وفقهائهم.
ولا ينبغي أن يُؤخذ ما دُون في كتابيهما على محمل التسليم بلا تحقيق.
فابن طاهر ظاهري صوفي، وقد ألف في التصوف؛ وكثير من الصوفية يتعبدون بالغناء والعزف؛ فالاعتماد عليه في هذا الباب غير متجه.
ثم إنه كما قال الذهبي في الميزان (3/587): (ليس بالقوي، فإنه له أوهام كثيرة في تواليفه، وقال ابن ناصر: كان لُحْنة، وكان يُصحِّف … قلت: وله انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضى).
ولكثير من أهل العلم قدح شديد فيه؛ قال الأذرعي الشافعي (كما في كف الرعاع 279): (وابن طاهر الذي تبعوه وإن كان مكثرا فليس بظاهر النقل، وفي كتابه صفة التصوف وكتابه في السماع فضائح وتدليسات قبيحة لأشياء موضوعة). وقال الهيتمي في كف الرعاع (308) (وأما ابن طاهر فإن العلماء بالغوا في تضليله وتسفيهه). ثم استطرد في تشديد النكير عليه، وذكر ما ينسب إليه من القبح والأمر الشنيع، ويُنظر في نسبتها إليه أيضا ما جاء في ترجمته في البداية والنهاية والوافي بالوفيات وغيرهما.
ويكفي أن يُعلم أن ابن طاهر روى في كتابه في التصوف حديثا مكذوبا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه تواجد مع أصحابه لسماع إنشاد غزلي واهتز حتى سقط رداؤه عن منكبه. قال الهيتمي: (فإنه أسقط ذكر واضعه ومختلقه وذكر بعض رواته الذين لا مطعن فيهم ليوهم الناس أنه حديث صحيح، ومن وصلت جهالته وسفاهته إلى هذا الحد كيف يعول عليه أو يلتفت إليه من يزعم أن له أدنى مسكة من دين الله فضلا عن ورع). كف الرعاع (308).
وقد صنف أحمد بن عيسى ابن قدامة المقدسي (ت 643هـ) رسالة في الرد عليه في إباحته السماع، كما في الأعلام للزركلي.
وأما الأدفوي فهو تابع لابن طاهر في هذا الباب؛ قال الهيتمي في كف الرعاع (282): (والأدفوي هذا يتابع ابن طاهر في جميع كذباته). وانظر ما نقله (307) من نقد الزركشي له.
ومما يدل على أنه لا يوثق بما يتفردان بنقله: وقوعهما في النقل الخاطئ عن أهل العلم أو المكذوب عليهم؛ كما سيأتي نقله فيما يأتي.
الوقفة السابعة: من أشنع ما في وريقات الشيخ عادل أنه نسب القول بإباحة الغناء والمعازف إلى طائفة كبيرة من الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم، معتمدا في ذلك على ابن طاهر والأدفوي أو من نقل عنهما؛ ولم يكلف نفسه -هداه الله- عناء البحث والتحقيق في نسبة ما يورد، وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
قال الهيتمي وهو يرد على رجل كتب كتابة على وزان ما كتب الشيخ عادل (كف الرعاع 307): (وقوله: ونُقل سماعه عن فلان وفلان، وذكر جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وغيرهم؛ جوابه: أن هذا كله نقل باطل، واحتجاج بالتمويهات والتلبيسات … وأما مجرد قوله: “نُقل” فهذا كلام لغو لا يفيد شيئا إلا في غرضه الفاسد، وهو ترويج أفعاله وأقواله الباطلة الكاذبة على من لا يفرقون بين: “نُقل” و”صَحَّ”، ويعتقدون أن الكل من واد واحد، وهيهات؛ ليس الأمر بالهوينا كما يظن هذا الرجل وأضرابه، بل بينه وبين إثبات الحل عن واحد ممن ذُكر مفاوز تقطع دونها الأعناق، إذ لو أقام طول عمره يفحص ويفتش ما ظفر بنقل الحل من طريق صحيح عن واحد من العلماء فضلا عن هؤلاء الكثيرين الذين عدّدهم).
فهل كان يظن الشيخ عادل أن التحقيق العلمي هو أن يتلقف من هنا وهناك ما يوافق هواه لتثبت له الحجة ويُكتب له الانتصار على من صب جام غضبه عليهم؟
لقد بالغ الشيخ عادل في الانتصار للغناء حتى صوّر للناس الصدر الأول من هذه الأمة -وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم- بأنهم أهل غناء وطرب ومزامير! فشُغلهم الغناء والعزف، في بيوتهم واجتماعاتهم، وفي مكة والمدينة ومِنى، في صورة قاتمة تنفر منها الفطر، ويكذبها كل من عرف طرفا من حالهم، وقد برأهم الله من ذلك وعافاهم؛ فجميع ما يروى عن الصحابة من ذلك إما مكذوب أو ضعيف أو حُرّف عن سياقه؛ فلا دلالة فيه على مراد المفتونين بالعزف والطرب، ولم يصح عنهم إلا ما كان من جنس حداء الركاب وترنم المسافر، وهذا ما لا يخالف في جوازه أحد -حتى من وصفهم الشيخ عادل بالإصابة بجرثومة التحريم-.
وليس حب المرء للانتصار لنفسه بمسوغ له أن ينقل ما تلتقطه عيناه من ركام المكذوبات وضعيف الأخبار.
وأعجب مما نقله عن آحاد الصحابة ما نقله عن ابن طاهر من إجماع الصحابة والتابعين على حل الغناء! وهو يعلم ما الذي سيفهمه عامة الناس من كلمة “الغناء”؛ ولعمري إن هذا لمن التلبيس، ومن الإخلال بالأمانة العلمية.
وقد كنت عزمت على تفصيل الرد لما أورده الشيخ عادل مما نسبه للصحابة رضي الله عنهم، ثم آثرت الإعراض عن ذلك؛ لنكارته الظاهرة، ورغبة في الاختصار، واكتفاء بهذه النقول عن أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (10/543): (ونقل ابن طاهر في كتاب السماع الجواز عن كثير من الصحابة؛ لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النَصْب [شبيه بالحداء] المشار إليه أولا).
وقال الأذرعي ردا على ابن طاهر (كف الرعاع 279): (أما دعواه إجماع الصحابة فمجازفة وتدليس … وما نُسب إلى أولئك الصحابة أكثره لم يثبت، ولو ثبت منه شيء لم يظهر منه أن ذلك الصحابي يبيح الغناء المتنازع فيه). ثم قال: (فإطلاق القول بنسبة الغناء المتنازع فيه إلى أئمة الهدى تجاسر، ولا يفهم الجاهل منه هذا الغناء الذي يتعاطاه المغنون المخنثون ونحوهم). ومراده بالغناء المتنازع فيه ما بينه الهيتمي في الموضع السابق؛ من الترنم بغزل الشعر مع تلحينه وتقطيعه على النغمات الرقيقة المطربة، وهذا دون أن يصحبه آلة طرب؛ وهذا النوع يختلف عن حداء الأعراب ونحوه، وهو أشبه ما يكون بأداء الأناشيد المعروفة اليوم؛ فهذا ما وقع فيه الخلاف بين مبيح بإطلاق أو بقيد، وحاظر، وكاره، انظر المرجع السابق (277).
فليت شعري أين هذا عما ينتصر الشيخ عادل لتحليله؟!
وقال القرطبي -فيما نقله عنه الهيتمي في كف الرعاع (278)-: (وحكاية أبي طالب المكي لذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وأن الحجازيين لم يزالوا يسمعون السماع في أفضل أيام السنة -الأيام المعدودات- إن صحت هذه الحكاية؛ فهي من القسم الأول دون الثاني). ومراده بالقسم الأول ما كان كحداء الأعراب بإبلهم، وغناء النساء لتسكين صغارهن، ولعب الجواري بلعبهن، ونحو ذلك. انظر من الكتاب السابق (277).
الوقفة الثامنة: أما التجني على أهل العلم -في هذه الوريقات- وتقويلهم ما لم يقولوه فشيء يطول بيانه؛ وسأقتصر في هذا على أمثلة تكشف عما وراءها.
أولا: نقل الشيخ عادل نقلا مسلَّما عن ابن طاهر: أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود!
هكذا بلا حياء! ولا شك أن هذا النقل عنهم باطل؛ قال الهيتمي في كف الرعاع (307): (وأما ما حكاه ابن طاهر من إجماع أهل المدينة فهو من كذباته وخرافاته؛ فإنه كما مرّ رجل كذاب، يروي الأحاديث الموضوعة ويتكلم عليها بما يوهم العامة صحتها –كما مر في مبحث الغناء والرقص، وأيضا هو مبتدع … ومن هذا حاله لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، ومن ثم قال الأذرعي عقب حكايته الباطلة الكاذبة عن إجماع أهل المدينة وعن الشيخ أبي إسحاق: وهذا من ابن طاهر مجازفة).
وقد بيّن بطلان ما نُقل عن أهل المدينة في الغناء -لا العود- إمامان من أئمة أهل المدينة؛ وهما مالك بن أنس وإبراهيم بن المنذر؛ فقد أخرج الخلال في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (86) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: (حدثني إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء؛ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وأخبرني العباس بن محمد الدوري قال: سمعت إبراهيم بن المنذر وسئل فقيل له: أنتم تترخصون في الغناء؟ فقال: معاذ الله، ما يفعل هذا عندنا إلا الفساق). وليلحظ أن نقد هذا المنقول تعلق بالغناء -أي الغناء الممنوع- وهو الذي نُقل خطأً عن أهل المدينة كما في عدة روايات في كتاب الخلال؛ فكيف بالعود؟
بل إن المنقول عن أهل المدينة ضد ذلك -وهو اللائق بهم-؛ فقد قال القرطبي في تفسيره (14/55): (وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا).
ثانيا: نقل الشيخ عادل عن الأدفوي إباحة عز الدين بن عبد السلام السماع مع آلة من الآلات المعروفة؛ وهذا غير صحيح؛ فإن ابن عبد السلام قد جزم في كتابه قواعد الأحكام (2/224) بحرمة الأوتار والمزمار، وحكى ذلك عن جمهور العلماء.
ثالثا: نقل الشيخ عادل عن الأدفوي عن ابن طاهر إباحة العود عن أبي إسحاق الشيرازي؛ وهذا كذب عليه؛ فقد نص في كتابه المهذب (15/488 مع المجموع) على تحريم العود والطبل.
وقد شنع الأذرعي والزركشي والهيتمي على ابن طاهر والأدفوي في نقلهما هذا الكذب عن الشيرازي وعز الدين بن عبد السلام، وأغلظوا النكير عليهما في ذلك. انظر: كف الرعاع (307-309).
رابعا: نقل الشيخ عادل عن الأدفوي ما حكاه الإسنوي من إباحة الروياني والماوردي للعود، وظاهر عبارة الشيخ عادل أنهما المبيحان؛ وهو كذب عليهما؛ فالماوردي قد نص في كتابه الحاوي (21/207) على تحريم العود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار، بل وصف العود بأنه أكثر الملاهي طربا!
وأما الروياني: فقد قال ابن حجر الهيتمي في كف الرعاع (306) بعد أن حكى رد الماوردي قول من أباح العود: (وتابعه الروياني في البحر في رد هذا وتزييفه)؛ فكيف يكون قائلا به؟
والصواب أن الإسنوي نقل عنهما حكاية الخلاف في العود عن بعض الشافعية؛ وهذا النقل عنهما ليس بدقيق؛ لأن الإسنوي إنما نقل عنهما إباحة بعض الشافعية في حالة مخصوصة قد تجعلها من باب الحاجات؛ على أن الماوردي والروياني قد عقبا على ذلك برد هذا وتزييفه، وبيان أنه لا يعتد به ولا يحكى إلا لرده، انظر: كف الرعاع (306).
ولو صح أن بعض الشافعية قال بذلك؛ فهل الإجماع يُقدح فيه بغير قول مجتهد؟ فكيف بقول مجهول لا يُدرى من هو؟!
خامسا: يبدو أن الشيخ عادلا قد تأثر بابن طاهر والأدفوي؛ فصار يحذو حذوهما! فهو يقول: (ونص على إباحة الغناء: ابن رجب الحنبلي العالم المشهور صاحب الفنون). وهو يوهم بهذا النقل أنه يبيح الغناء الذي أشاد البنيان لإثبات تحليله.
فهل من النصوص التي أفاد منها الشيخ عادل هذه النسبة إلى ابن رجب قوله رحمه الله (فتح الباري 6/82): (وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى؛ فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور؛ فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة … ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به)؟!
فسبحان ربي .. ابن رجب الذي هو من أشد من حمل على الغناء المحرم والمعازف، وقال فيها ما نقلت طرفا منه آنفا، وألف في ذلك رسالته الشهيرة (نزهة الأسماع في مسألة السماع) – يجعله الشيخ عادل من محللي “الغناء”! .. فهلا قليلا من العقل والإنصاف يا عبد الله.
سادسا: ومن أمثلة الأغلاط في النقل عن أهل العلم التي أوردها الشيخ عادل قوله: (وحكى القرطبي في تفسيره جوازه [أي الغناء] عن أبي زكريا الساجي).
والذي في تفسير القرطبي (14/55): (وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا). فالذي لا يرى بأسا بالغناء هو إبراهيم بن سعد، والساجي ناقل عنه فقط.
وقد قال ابن رجب في كتابه نزهة الأسماع (60): (وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي في كتابه اختلاف العلماء اتفاق العلماء على النهي عن الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة). ثم قال ابن رجب موضحا: (وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي؛ فإنه لا يُعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها، إنما يُعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به).
وهكذا أضحى من ينقل اتفاق العلماء على النهي عن الغناء قائلا به!
وهكذا فليكن البحث والتحقيق العلمي!
فهذه أمثلة على أوهامهما وأوهامه، ولدي أمثلة أخرى أدعها طلبا للاختصار، وأحيل الشيخ عادلا إلى رسالة (الرد على القرضاوي والجديع) للشيخ عبد الله رمضان ففيها تحقيقات حسنة، وتزييف لما نقله في وريقاته عن بعض السلف وأهل العلم كعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن سعد، وعبد العزيز الماجشون، ويوسف الماجشون، وغيرهم.
وأختم هذه الوقفة بالتنبيه على أن الشيخ عادلا إما أن يكون عالما بعدم صحة هذه المنقولات التي مضت؛ فتدوينها في مقاله إذن إخلال منه بالأمانة العلمية، وخيانة للمسلمين.
أو لا يكون عالما؛ وإنما نقلها دون تحرير -وهذا المظنون به- فإنه يُسأل حينئذ: أين التحقيق العلمي الذي يليق بطالب العلم؟
وهل هذا هو البحث والتمحيص الذي جعله يرجع عن القول بالتحريم إلى الإباحة؟
وإذا لم يكن قادرا على التحقيق العلمي فهلا أراح واستراح؟
وهل سيعلن على الملأ أنه قد وقع فيما نعاه على غيره حين قال: (بل إن الحدث كشف عوار أمة تحمل لواء النص وتزعم اتباعه، وتنهى عن التقليد المقيت، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص)!
والله أعلم بمن الذي كُشف عواره في هذا الحدث.
الوقفة التاسعة: مما يدل على أن الشيخ عادلا قد جانب الصواب في اعتماده على ابن طاهر والأدفوي: أن الناظر يجد أنهما ينقلان عن عالم ما يوافق قولهما، ولهذا العالم كلام ينقض هذا القول؛ فيعرضان عن الإشارة إليه؛ من أمثلة ذلك: ما نقله الأدفوي عن الغزالي أنه نقل الاتفاق على حل الغناء -وقد عُلم ما الغناء في لسان المتقدمين- لكنه أعرض عن بيان أن الغزالي نفسه قد نص في إحياء علوم الدين (2/272) على تحريم الملاهي والأوتار والمزامير.
فهل يقبل الشيخ عادل أن يُحتج عليه بمن يحتج هو به؟
والأمر نفسه يقال في ابن قدامة؛ فقد نقل الشيخ عادل عنه بيانه لاختلاف الحنابلة في الغناء؛ وابن قدامة نفسه ينص في الكتاب نفسه على الإجماع على تحريم آلات اللهو -كما سبق-.
فهل يقبل الشيخ عادل أن يُحتج عليه بمن يحتج هو به؟
علما أن الخلاف بين الحنابلة ليس في غناء الفجور، وحاشاهم؛ وإنما الأمر كما قال القرطبي في تفسيره (14/55): (وإنما أشاروا [أي الحنابلة] إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات).
ومما يدل أيضا على أنهما ليسا أهلا للاعتماد أنهما قد يجتزئان من المنقول عن أهل العلم ما يوافق هواهما ويسكتان عن تتمته التي تنقض ما يذهبان إليه.
من أمثلة ذلك: ما نقله الشيخ عادل عن الأدفوي عن الماوردي أنه نقل ترخيص أهل الحجاز في الغناء في أفضل أيام السنة.
وكلام الماوردي في الحاوي (17/386) إنما هو في معرض نقْل استدلال من أباح الغناء؛ حيث قال: (ولأنه لم يزل أهل الحجاز يترخصون فيه ويكثرون منه، وهم في عصر الصحابة وجلة الفقهاء، فلا ينكرونه عليهم ولا يمنعونهم منه، إلا في إحدى حالتين : إما في الانقطاع إليه أو الإكثار منه … وإما أن يكون في الغناء ما يُكره). ومن تأمل هذا الكلام وما تضمنه من القيدين يجد أن ما يُعزى إلى أهل الحجاز لا يخرج عما عليه عامة أهل العلم، كما يُلحظ أن إيراد الكلام كاملا ينتقض به ما أسس له الأدفوي، أو الشيخ عادل.
وقد أتبع الماوردي بعد ذلك بصفحات يسيرة (390) ما يؤكد ما قلته؛ فها هو الماوردي الذي يستشهد به الشيخ عادل ينص على أن من الملاهي المحرمة: العود، والطنبور، والمعزفة، والطبل، والمزمار، وما ألهى بصوت مطرب إذا انفرد.
فهل سيكون كلامه مقبولا عنده؟ أم سيتهمه بالإصابة بجرثومة التحريم؟
هذا ما تيسر تعليقه على ذاك المقال، وقد تجاوزت أشياء عدة، ولعل فيما كُتب كفاية، والقصدُ نصرة الشيخ عادل، والنصح للمسلمين. والله المسئول أن يلهم الشيخ عادلا رشده، وأن يبصره بالحق، ويوفقه للرجوع إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.