كفى طعنا في السنة ياالمطرودي!!
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد فقد كتب د. إبراهيم المطرودي في صحيفة الرياض ( 18 ربيع الآخر، لعام 1437هـ) مقالا سيئا في سلسلة مقالاته التي يكتبها بقلم جهله واستعلائه وغروره بنفسه([1]) ؛ فينال فيها من السنة، ويطعن في أحاديث الصحيحين، ويسفّه علماء الأمة، ويتهم الأمة جمعاء، ويرمي المؤمنين بالهوى، الذي هو أحق به، ويزعم أنه على الهدى وهم على الضلال. نسأل الله أن يعافيه من هذا البلاء، ويصلح قلبه، ويريه الحق حقا ويرزقه اتباعه، والباطل باطلا، ويرزقه اجتنابه.
عَنْون لمقاله المذكور بـ ( القرآن الكريم وشؤم المرأة)
وهذا المقال عبارة عن تقعيد، ومثال. وما ذكره في القاعدة أخطر مما ذكره في المثال، لاسيما أنه قد يفهم منه عدم الاعتداد بالسنة، والاكتفاء بالقرآن، حين قال: ( حتى لا يبقى شيء في حياة المسلم سوى القرآن الكريم) ولو ذهبت أفصّل في الرد عليه في كل حرف مما ضلّ فيه عن الحق لخرجنا من المقال إلى الكتاب، لكن سأبين ـ بإذن الله ـ غلط الكاتب، وتناقضه، وسوء فهمه، في التقعيد والتمثيل، على سبيل الإيجاز، فأقول ـ مستعينا بالله ـ :
خلاصة التقعيد الذي ذكره هو أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن القرآن مهيمن على ما سبقه من الكتب الإلهية في قوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [المائدة: 48] وإذا كان مهيمنا على الكتب المنزلة من عند الله، فهو بلا مرية المهيمن على رواية الناس للحديث، وهو المحكمّ فيها، لكن الناس خالفوا هذا على مرّ القرون؛ فحوّلوا هيمنة القرآن إلى هيمنة عالم الأشخاص، بعد أن استحوذ عليها الأسلاف والعلماء من المحدِّثين والفقهاء في الأزمان الأولى؛ حتى صار الرجوع إليهم والاحتكام، وليس إلى الكتاب الكريم، وزعم الكاتب أن همّه ( في طعونه وفهمه السقيم) أن يعيد للقرآن حقه المسلوب في الهيمنة على كل شيء؛ فيقرأ كل أحد النص بما يهديه إليه عقله، دون اعتبار لكلام السابقين من أهل العلم والإيمان من الصحابة فمن بعدهم!
والكلام على هذا في الوجوه الآتية:
الوجه الأول: الآية المذكورة حق، ودلالتها حق، والأخذ بذلك فرض؛ لكن كيف يكون الأخذ بها؟ هل يؤخذ بها دون غيرها من الآيات، كما هي طريقة أهل الزيغ والضلال، وهي التي وقع فيها الكاتب؟ أو تضم إلى غيرها من الآيات كما هي طريقة أهل الحق والهدى، وهي التي أعرض عنها الكاتب؟ بل في الآية التي استدل بها ما ينقض عليه قوله، وهو قوله تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وهذا المنزل هو القرآن والسنة، كما دل عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [النساء: 113] والحكمة هي السنة، فتبين بهذا أن السنة أصل كما أن القرآن أصل، فإذا ثبتت السنة صارت بيانا للقرآن، وأصلا يرجع إليه، وللقبول والرد قواعد وأصول مقررة عند أهل العلم، والكاتب جاهل بها، فلا غرابة حينئذ أن يخلط ويخبط في مقالاته.
الوجه الثاني: جاء في القرآن العظيم ما يبين بطلان كلام الكاتب، وهو:
- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقوله: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] وهذا عام فيما نزل به قرآن، و ما كان من سنته عليه الصلاة والسلام، وجاء التنصيص على خصوص السنة في قوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [النساء: 59] والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته الرد إلى سنته المحفوظة.
- قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44] فالآية الكريمة دالة على أن السنّة مبينة للقرآن، وبيانها للقرآن على وجوهٍ مذكورة معروفة في كتب الأصول، وعندئذ يجب النظر بين الوارد في الكتاب والسنة على وجهٍ صحيح يقتضي التأليف بينه، كما هو صنيع أهل العلم قاطبة.
- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [التوبة: 100] والاتباع لهم عام في العلم والفهم والعمل، وهذا يبطل ما دعا إليه الكاتب من اطّراح المنقول عن السلف، والنظر في النصوص برأينا وعقولنا، ويؤيد هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115] والذي يطّرح أقوال السلف قد اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فكان مستحقا للوعيد المذكور في الآية.
- قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] إحالة على أهل العلم بصفتهم المعتبرة شرعا، والأمر يقتضي الوجوب، والكاتب يخالف هذا، ويدعو إلى الإعراض عنهم، ويزعم أن الأخذ عنهم معناه جعلهم مهيمنين على القرآن، وهذا فهم فاسد، تردّه هذه الآية، ولو كان الأمر كما زعم لكانت هذه الآية تدعو إلى هيمنة العلماء على القرآن؛ فتناقض الآية الكريمة الدالة على هيمنة القرآن على ما تقدمه من الكتب.
فلماذا أعرض الكاتب عن هذه الآيات، وهي من كتاب ربنا؟! أعرض عنها لأنها تنقض عليه شبهاته وانحرافاته، وتبيّن جهله وعواره، وتكشف عن حاله.
الوجه الثالث: اعتبار أقوال السلف، وعدم الخروج عنها في فهم الأدلة الشرعية إجماع من العلماء، خلافا لما ذهب إليه الكاتب، قال أبو الحسن ابن القطان رحمه الله ( الإجماع 1/69) : ( وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يخرج على أقاويل السلف فيما أجمعوا أو عما اختلفوا فيه أو في تأويله؛ فإن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم)
الوجه الرابع: وبناء على ما سبق يظهر للقارئ الكريم أن فهم الأدلة بمنأى عن كلام أئمة العلم والدين ضلال عن الحق، وأن الكاتب قد اجترأ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وأنه لا يُوثق بما يكتبه في نقد الأحاديث النبوية؛ لتفرّعه عن هذا التقعيد الظاهر فساده.
وأما المثال فهو حديث ( الشؤم في ثلاثة: الفرس والمرأة والدار) المخرج في صحيحي البخاري ومسلم، فقد زعم الكاتب أنه يريد أن يعيد النظر فيه من خلال كتاب الله، وزعم أن الغراب أكثر ما كانت تتشاءم به العرب؛ والحديث جعل المرأة وما معها مقدما في الشؤم على الغراب بدلالة الحصر في بعض روايات الحديث، وأنه لا تشاؤم إلا حيث يكثر الشر وتعظم المصيبة، ثم طرح تساؤلا: هل الأم والأخت والبنت والزوجة كذلك، أو نحن بحاجة إلى مراجعة المروي بعيدا عن راويه وناقله؟ هذا جملة ما في المثال، مع الإعراض عن ذكر كلامه الساقط في حق الأمة.
والكلام عليه في الوجوه الآتية:
الوجه الأول: الحديث المذكور مخرج من طرق في الصحيحين من حديث ابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهما، وتخريجهما في الصحيحين يعني صحتهما، كما هو مقرر في علم أصول الحديث.
الوجه الثاني: لم يأت الكاتب بآية واحدة تخالف الحديث، مع زعمه أنه يريد أن يعيد النظر فيه من خلال كتاب الله!
الوجه الثالث: في القرآن ما يؤيد الحديث، لكن الكاتب أخفاه، قال الإمام البخاري رحمه الله في ( صحيحه) باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُم} ثم ساق حديثي ابن عمر وسهل رضي الله عنهما.
ولئن توهّم الباحث بجهله المركب أن هذين الحديثين يعارضان القرآن ( مع أنه لم يذكر ولا آية واحدة تدل على ذلك) فما ذا سيكون جوابه عن هذه الآية؟ هل سيردها كالحديثين؟ أوسيؤلف بينها وبين ما استبطنه من الآيات؟ الأول لا يستطيع قوله، فتعيّن الثاني، وعندئذ يقال له : إن الأخذ بالسنة واجب كما تقدم؛ فوجب الجمع بينها وبين الآيات، كما وجب الجمع بين الآيات بعضها مع بعض، كما هو مسلك العلماء قاطبة.
الوجه الرابع: هناك تشاؤم من شيء لم يثبت بالدليل شؤمه؛ فهو اعتقاد مبني على توهم واعتقاد فاسد، كما كانت العرب تصنعه، وهناك شؤم أثبته الدليل، وهو الوارد في الحديثين، فوجب إثباته، ولا يجوز نفيه، لكن البحث وقع في وجهه ومعناه، ونظر العلماء مختلف في ذلك بحسب الاجتهاد، وقد ذكر شراح الحديث وغيرهم آراء متعددة في ذلك، وليس بيانها هو المقصود هنا، ولكن المقصود بيان أن الكاتب لا يعرف الفرق بين التشاؤم بالشيء الذي لم يثبت بالدليل الشؤم فيه، وبين وجود الشؤم في بعض الاعيان بتقدير الله بدلالة النص، فأثبت ما نفاه الدليل، ونفى ما أثبته، بمجرد رأيه الفاسد، الذي هداه إليه عقله المريض! وعلى هذا فما استشكله باطل من أصله، وما أورده من نقض على العلماء ـ بتصوره الخاطئ ـ ظاهر البطلان، واستعمال للقواعد في غير مواضعها.
فالكاتب هجم على الحديثين وأبطلهما بغير برهان، ولا فهم صحيح، ولا نظر سديد، ولو كان يعقل لا ستصغر نفسه عند الشيخين: البخاري ومسلم، بل عند علماء الأمة كافة على مرّ العصور.
فأدعو الكاتب إلى أن يتوب إلى الله، ويكف عن هذه الحماقات، ويتعلم العلم على أصوله، ويلجأ إلى الله ويسأله أن يهديه للحق، ويتوفاه عليه.
أسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا، وأن يثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه/ عبدالعزيز بن محمد السعيد
لخميس 18/ 4/ 1437هـ