لعنة الله على الخوارج أغرب أشكال بني آدم !
من أعظم الذنوب، وأكبر الموبقات، قتل النفوس التي حرّم الله، خاصّة إذا كان صاحب هذا الإسراف في القتل والبغي بغير الحقّ والتعدّي على الأنفس المعصومة والأرواح البريئة ينسب جرائمهَ النّكراء وإفساده في الأرض إلى الشريعة المطهّرة، لا شكّ أن الخطب عند ذلك أعظم، والجريمة أشنع، فيا لله ما أعظمها من جناية، وما أشدّه من ضلال وهوى !
قد كان هؤلاء الغلاة فيما مضى يقتلون الناس ويتعدّون على أنفسهم لمجرّد الجنسية أو لون البشرة أو الشّعر أو الاختلاف في المذهب، ويتعدّون على من لا يجوز قتله وسفك دمه من عساكر المسلمين، ومن لا يجوز إيذاؤه من المعاهدين والمستأمنين.
أما اليوم فللخوارج شأن آخر، فقد صاروا يتقصّدون قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى من عوام المسلمين، يقتلونهم بدم بارد، ونفوس أركسها الشيطان في حمأة الانحراف، لينطبق على أصحابها أنّهم شرّ الخلق والخليقة كما صحّ بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في نعت الخوارج، فلا يدانيهم في طيشهم وسفههم وبغيهم واستطالتهم أحد، فلعنة الله على الخوارج !
عن سعيد بن جُمهان، قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه وهو محجوب البصر، فسلمت عليه. قال لي من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جُمهان قال: فما فعل والدك؟ قال: قتلته الأزارقة ــ فرقة من الخوارج ــ قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة. حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أنهم كلاب النار “، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رجاله ثقات، وحسّنه الوادعي في الصحيح المسند وصحيح دلائل النّبوة.
كم حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو وأغلظ في شأنه، وكم نبّه أولي العقول وذوي الأفهام إلى خطره، وعظيم إفساده، وشنيع عواقبه ومآلاته.
من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ” رجلان ما تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وآخر غالٍ في الدين مارقٌ منه “. أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة وصححه الألباني.
وليعلم كلّ مسلم أنّ آفة هؤلاء الخوارج ومشكلتهم في عقولهم وأفهامهم وتصوّراتهم الخاطئة، ثم يظهر أثر ذلك وثمرتهُ الخبيثة على ما تصنعُهُ أيديهم، ويحصدُه غلوّهم من الإفساد العريض، والغلو في التكفير، والاستهانة بقتل الأنفس المعصومة.
وقد توعّدهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ” متفق عليه.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ” إنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فحملوها على المؤمنين ” أخرجه البخاري.
ما أعظم حُرمة دماء المسلمين عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند عباده المؤمنين، وما أهونها، وأطيب سفكها، وأعذب ريحها، وأسهل التعدّي والجراءة عليها عند وُرّاث الخوارج، الذين تجرّدوا من الفطرة السّليمة قبل أن يتجرّدوا من العقيدة السلفية الصّافية التي جاءت بصيانة الأنفس المعصومة، والإغلاظ في حقّ المتعدّين عليها، والمنتهكين لحُرمتها، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: ” مرحباً بك من بيتٍ، ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك؛ إن الله حرم منك واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثاً: دَمَه، ومالَه، وأن يُظَنَّ به ظنُّ السوء “.
وقال صلى الله عليه وسلم: ” إذا شهر المسلمُ على أخيه سلاحاً، فلا تزال ملائكة الله تلعنه حتى يُشيمَه عنه ” انظر السلسلة الصحيحة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ” إنّ الملائكة لتلعنُ أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة، وإن كان أخاه لأبيه وأمه ” أخرجه مسلم.
هذا الوعيد الشديد والتغليظ الأكيد في حق المسلم إذا أشار بحديدة إلى أخيه على وجه المزاح واللعب، فكيف بمن يقتحم المستشفيات والمجمعات السّكنية والأسواق ومجامع المسلمين ليُعمل في من ارتادها آلة القتل والذبح، فيضرب البرّ والفاجر، ولا يتحاشى من المؤمن ولا يفي لذي العهد عهده، ثم يدّعي زورا وبُهتانا وكذبا على الله تعالى، واستهانة بحدوده، وإسفافا بعقول الناس أنّه ما قام بعمله هذا إلا نُصرة لقضايا المسلمين المستضعفين، واستشعارا لمعاناتهم وإحساسا بالمسؤولية تجاههم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ” لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يُصب دماً حراماً ” أخرجه البخاري.
فما أشدّ فساد عقول هؤلاء الناس، وما أوهن بُنيانهم، وما أعظم جنايتهم على الشّريعة وإضرارهم بها، وتحريفهم لمعانيها، وتشويههم لسماحتها ورحمتها، وتنفيرهم عامة الخلق عن اتّباعها، بتأويلات فاسدة، وفهومٍ بلغت الغاية في الانحراف، أنتجتها عقول عفنة، وقلوب مريضة، زائغة عن الحق، متناهية في الضلال.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، يُحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) قال:” هم الخوارج “.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، وذُكر عنده الخوارج، وما يلقون عند قراءة القرآن، فقال:
( يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه).
وعن علي رضي الله عنه أنه سُئل عن هذه الآية: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) سورة الكهف:103.
قال :” لا أظن إلا أن الخوارج منهم.
والله ما تغني عنهم دعاواهم الكاذبة، ولا يغني عنهم ورعهم البارد شيئا، فقد كان الخوارج أشدّ منهم نصبا في العبادة، وإقبالا على الطاعة، وإعراضا عن الدنيا، وإقبالا على الآخرة، كما في قصة ابن عباس رضي الله عنهما لما جاء لمناظرتهم، قال: ” فدخلت على قومٍ لم أر قوماً قطّ أشد منهم اجتهاداً، جباههم قُرّحت من السجود، وأيديهم كأنّها بقر الإبل، وعليهم قمص مرحضة مشمرين، مسهمة وجوههم من السهر “.
فالخوارج لسفههم وجهلهم، وضيق عطنهم، وقصر باعهم في فهم الشريعة، حوّلوا سماحة الدين إلى غلو وتشدّد، ويُسره إلى عُسر وتضييق، وسَعته إلى تنطّع وتعمّق، ورحمتهُ إلى ظلم وبغي، فهم جهّال لا يفهمون الشريعة، سُفهاء لا يتّبعون خطابها، ولا يُدركون شيئا من مقاصدها ومصالحها، ولا يقدّرون عواقب إفسادهم، ولا ينظرون إلى مآلات جرائمهم.
قال القرطبي رحمه الله في المفهم: ( وهذا كُلّه من أثر عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق من العلم، وكفى أنّ رأسهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَه ونسبه ُإلى الجور، نسأل الله السلامة ).
وقد وصفهم ابن كثير رحمه الله بأنّهم من أغرب أشكال بني آدم.
فقد كان بعض خطبائهم يحرّض على قتال علي رضي الله عنه بقوله: ( اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين، وإن أنتم قُتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته).
فلا يجوز أن يغترّ المسلم النّاصح لدينه بكثرة عبادة الخوارج المعاصرين، إن كانوا أهل عبادة ونُسُك، ولا ينخدع بأشكالهم وصورهم، أو يغترّ بمعسول خطابهم، وجميل شعاراتهم، وقولهم بقول خير البريّة، فإنّ الغلوّ يُحرق كلّ حسنة يدّعونها، ويُفسد كل عمل صالح يزعمونه، ويهدم كلّ بناء نافع يُقيمونه.
فليلزم المسلم طريقة السلف الصالح ومنهاجهم في فهم الدين وتلقّيه والعمل به، فإنّه الحقّ الذي ليس لأحد من الخلق أن يحيد أو يُعرض عنه، ففي التمسّك به النجاة من الفتن والأهواء المضلّة، والسّلامة من إفراط الخوارج الغلاة، وتفريط المفرّطين الجُفاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى (236:3) : ” إن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه، وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه؛ قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية “.
كتبه محمد بن علي الجوني
10 صفر 1435