يقول السائل: عندنا دكتور في الجامعة وهو تونسي يدرسنا في مادة بحث في علوم القرآن لمناع القطان، ووصلنا إلى نزول القرآن، فقال: إن القرآن منزَّل لا مخلوق، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وذكر محنة الإمام أحمد ولكن قال: أخطأ أحمد وأصاب في مقولته بأن القرآن قديم، قِدَم وجود الله، فنريد جوابًا شافيًا عن محنة الإمام أحمد، ومعنى: أن القرآن منزل لا مخلوق؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: خلاصة ما ابتلي فيه الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه دعا إلى ما دل عليه كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منزل غير مخلوق، وهو صفة من صفاته.
والأدلة على ذلك كثيرة، والإجماعات متواردة عن أهل السنة في مثل هذا.
فابتلي الإمام أحمد رحمه الله تعالى بالجهمية بالمعنى العام، وبالمعنى الخاص المعتزلة، فابتُلِي بلاء شديدًا، وأرادوا أن يضطروه إلى أن يقول: بأن القرآن مخلوق.
وما ذكره هذا الدكتور التونسي حق من وجهٍ دون وجه.
أما إقراره بأن القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق، وأن هذا اعتقاد أهل السنة فقد أصاب.
أما قوله: إن أحمد أصاب في مقولته بأن القرآن قديم، قِدَم وجودِ الله.
فهذا كلام مجمل، الكلام لله من حيث النوع هو قديم بِقَدم الله، أما أفراد الكلام فهو يتجدد بحسب الحوادث، فالله سبحانه يتكلم ويسمع ويبصر، وهذا قديم بقِدَمه سبحانه، لكن كلامه في حدوث أمر معين يتجدد بحسب هذه الحادثة، لما حصل قصة المجادلة، قال سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
هذا الكلام جديد، وتجدد بحسب الحادثة التي حصلت، وهي قصة المجادلة، أما أصل الكلام فهو قديم، فلذا يقول أهل السنة: كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد والأفراد، والقرآن من كلام الله، كما قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6].
فكلام الله قديم، إلا أن القرآن لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن تكلم الله به، ثم قد يكون بحسب الحوادث، وقد لا يكون، المهم تكلم ربنا جل جلاله بالقرآن.
فكلامه بالقرآن جديد؛ لأنه من أفراد الكلام تجدَّد، أما أصل كلامه فهو قديم على ما تقدم تقريره.
وكثير من الأشاعرة قد يجملون، ويقولون: إن القرآن كلام الله، وإن كلام الله غير مخلوق، ويقولون: قديم، ولا يقولون: بتجدد الحوادث، وإذا فصلت معهم وجدت أنهم يقولون: إن ألفاظ القرآن وما نتكلم به من القرآن مخلوق، وأن القرآن إنما هو ما في النفوس، فلذلك إذا قال رجل : يا محمد تعال، يقولون: “قوله: يا محمد تعال” ليس كلامًا، وإنما هو دليل على الكلام الذي في نفسه.
وهذا باطل وبدعة أحدثها ابن كُلَّاب شيخ أبي الحسن الأشعري، واتبعه أبو الحسن الأشعري، ولم يسبقهم إلى هذه البدعة أحد من العالمين، كما قال السجزي رحمه الله تعالى في رسالته لأهل زبيد، وذكر هذا ابن تيمية في كتابه “التسعينية”.
ومن أوضح ما يدل على بطلان قولهم أدلة كثيرة، منها: قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، سمى الله ما تُكلم به كلامًا، فإذًا الكلام هو ما تكلم به.
وقد يزور الإنسان في نفسه كلامًا ثم يتكلم به، فالكلام هو ما تكلم به وهو نفسي وحرفي، على تفصيل عند أهل السنة.
فالمقصود أن ما ذكره الدكتور التونسي كلام مجمل، ينبغي أن يفصل فيه على ما تقدم ذكره.