يقول السائل: قد رُوي عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أنه زارَ قبر النبي ﷺ ووضع وجهه على القبر، فإنَّ هناك مَن يستدل بهذا الأثر على جواز التمسح بالقبر، ويذكر أنَّ الذهبي صححه، فما توجيه هذا؟
الجواب:
إنَّ هذا الأثر رُويَ عند الإمام أحمد في مناسبةٍ لحديث، وهو حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قال ﷺ: «لا تبكوا على الدِّين ما وَلِيَهُ أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وَلِيَهُ غيرُ أهله».
وهذا الأثر رواه أبو عبد الله الحاكم في (المستدرك)، وفي تلخيص الذهبي للمستدرك أشار إلى أنه صحيح، فذهب طائفة إلى أن الذهبي -رحمه الله تعالى- يُصححه.
وقبل الكلام على الأثر، إنَّ هناك فرقًا بين صِحة الحديث وصحة الأثر، فإن الحديث رُوي من أوجه، وذهب جماعة إلى صحته وجماعة إلى ضعفه، وممن ضعفه العلامة الألباني في بحثٍ نفيسٍ في (السلسلة الضعيفة) وبيَّن أنه لا يتقوَّى بالطرق …إلخ.
وقد صححه الحاكم، ومن المعلوم أنه لا يُعتمد على تصحيحات الحاكم لكثرة أوهامه في (المستدرك) كما بيَّنه أهل العلم، وممن بيَّن ذلك الذهبي -رحمه الله تعالى-.
وما شاع عند كثير من المتأخرين من أنه إذا ذكر في مستدركه أن الحديث صحيح تبعًا للحاكم أن ينسب ذلك للذهبي، هذا فيه نظر -والله أعلم-؛ لأن الذهبي بصدد الاختصار، فهو يذكر ما ذكر الحاكم ولا يُنسب له هذا الأمر، إلا إذا استدرك أو أكد ذلك بكلام يدل على مخالفته أو موافقته للحاكم، فمجرد أن يقول: صحيح. تبعًا للحاكم، فهذا بمقتضى الاختصار والتلخيص، لا أنه اختياره، وقد نبه على هذا العلامة مقبل الوادعي -رحمه الله تعالى-.
وبعد هذا: الأثرُ الذي تقدم ذكره جاء من طريقين:
الطريق الأول: فيه أنه وضع وجهه، كما ذكر السائل، وهذا قد رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- من طريق كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح، أنه قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجلًا واضعًا وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم، جئت رسول الله ﷺ ولم آت الحجر، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تبكوا على الدِّين إذا وَلِيَهُ أهله …» الحديث.
وهذا الأثر لا يصح لما يلي:
الأمر الأول: أن في إسناده داود بن أبي صالح، وهو مجهول كما بيَّنه الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال)، وذكر ابن حجر في (التقريب) أنه مقبول، ومعنى (مقبول) عند ابن حجر كما بيَّن في مقدمته: أي إذا تُوبع، وإلا فهو ليِّن، فبهذا يكون ضعيفًا.
الأمر الثاني: أن في إسناده كثير بن زيد، وقد تنازع العلماء في تصحيحه وتضعيفه، ومثله لا يُحتج بما تفرد به.
وقد بيَّن ضعف هذا الأثر العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في (السلسلة الضعيفة).
وللأثر طريقٌ آخر في (أخبار المدينة) رواه أبو الحسين يحيى بن الحسين قال: حدثني عمر بن خالد، عن أبي نيابة، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب، ثم ذكر الأثر وذكر الحديث.
وهذا الإسناد لا يصح لأجل عمر بن خالد المخزومي، فإنه لا يُعرَف كما بيَّن هذا السبكي، مع أن السبكي ذكر الأثر وهو ممن يريد تجويز التمسح بقبر النبي ﷺ ومع ذلك اعترف بأنه لا يُعرَف، ثم في هذا الإسناد كثير بن زيد، وقد تقدم الكلام عليه.
وفي الختام أؤكد على ما يلي:
الأمر الأول: أنه على القول بأن الذهبي صححه، فإنه لم يصححه بهذه المناسبة وإنما صحح المتن المرفوع دون المناسبة، وإلا قد تقدم أنه لم يصححه.
الأمر الثاني: أن هذا الأثر محتمل، فوضع أبي أيوب الأنصاري وجهه على القبر محتمل أنه يتبرك به، ومحتمل أنه وضعه لغير ذلك من الأسباب، فليس صريحًا في أنه فعل ذلك تبرُّكًا، فلا تُترك الأدلة الصريحة الصحيحة -وهي السنة التركية- وذلك أن الصحابة مع كثرتهم وبقائهم عقودًا من الزمن بعد النبي ﷺ لم يتمسحوا بالقبر مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، فإذن لا يصح أن يُفعل ذلك، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
لذا بيَّن جمعٌ من العلماء أنَّ التمسح بالقبر بدعة ولا يُشرع، وممن شدَّد في ذلك النووي -رحمه الله تعالى- وهو من العلماء المعظمين عند المتأخرين، فبهذا يتبيَّن أن التمسح بدعةٌ ولا يصح، ولا يصح الاستدلال بهذا الأثر.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.