يقول السائل: ما الخلاصة بين العقل والنقل وأيهما يُقدم؟ مع ذكر الطوائف التي ضلت في هذا الباب وأمثلة ما ضلوا فيه.
الجواب:
الجواب على مثل هذا يطول للغاية، ومن المعتاد أن الإجابة على الأسئلة في مثل هذا تكون مختصرة، لكن ينبغي أن يُعلم أن قاعدة أهل السنة أن العقل تبعٌ للنقل وأن النقل هو الأصل والعقل تبعٌ له، ويدل لذلك أدلة كثيرة:
الدليل الأول: كل دليل في الكتاب والسنة فيه الأمر بطاعة الله ورسوله فهو دليل على أن النقل يُقدم على العقل.
الدليل الثاني: أن العقول ضعيفة، ويُوضح ذلك أن الرجل نفسه يستحسن شيئًا اليوم ومن الغد يُخالفه، فلا يصح أن يُرجع إلى عقولٍ هذا حالها متناقضة في نفسها، والله يقول: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ [النساء: 82].
الدليل الثالث: أن الناس متفاوتون في عقولهم، فيدل أن العقل ليس منضبطًا حتى يُرجع إليه، فيُرجع إلى عقل من؟ إلى عقل زيد أو عمرو أو أو …إلخ، فهذا يؤكد قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ [النساء: 82].
الدليل الرابع: أن العقل البشري كالإناء الفارغ، وفيما يتعلق بالشرعيات كالإناء الفارغ من الشرعيات، فلا يعرف حسنها من قبحها وصوابها من خطئها إلا بما يُعبَّأ فيه من الشرعيات، فبهذا يُعلم أن الأصل الشرع وأن العقل تابعٌ للشرع، لذا لا يستطيع العقل وحده أن يُميز الحق من الباطل ولا يستطيع أن يُميزه إلا بما وُضع فيه من الشرعيات، وهذا مقتضى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل)، وقد ردَّ على القانون الكلي الذي ذكره الرازي في شرح (الأربعين) وفي كتابه (المطالب العالية) وفي غيرها من كتبه.
فإن الرازي الأشعري -وقد وصفه ابن تيمية في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) بأنه جهمي- يقول كما يقول الأشاعرة: إذا تعارض العقل والنقل فإن العقل يُقدم على النقل. وهذا باطل عاطل شرعًا وعقلًا، وقد نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية بأوجه كثيرة منها ما تقدم ذكره، وقد ردَّ أئمة السنة قبل ابن تيمية على هذا وبيَّنوا أن العقول تابعة للشرع وأن العقل لا يصح أن يُخالف شرع الله سبحانه وتعالى.
والمعتقد الأشعري قائم على تقديم العقل على النقل، لذا غلا الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين في دليل الأعراض وحدوث الأجسام وجعلوه أصلًا في تأويل الصفات، وكل طائفة جعلته أصلًا في تأويل ما تتأوله، وأول من تكلم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام هو الجعد بن درهم، وتبعه تلميذه الجهم بن صفوان، فهو أصل عند الجهمية وجعلوه أصلًا في تأويل الأسماء والصفات، وكذلك هو أصل عند المعتزلة وجعلوه أصلًا في تأويل الصفات، وهو أصل عند الأشاعرة والماتريدية وجعلوه أصلًا في تأويل ما يتأولوه من الصفات.
وليس هذا مقام البسط لكن الخلاصة يجب على المسلمين أجمعين أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقيد مهم وهو فهمه بفهم السلف الصالح كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ [النساء: 115].
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.