يقول السائل: ما الفرق بين الكافر والفاسق والمبتدع من حيث الحجة، هل جميعهم سواء؟
الجواب:
الذي أفهمه من هذا السائل أنه يسأل: هل الكافر والفاسق، والمبتدع، سواء في اشتراط إقامة الحجة، أي: لا يكفَّر الكافر إلا بعد إقامة الحجة، ولا يفسَّق الفاسق إلا بعد إقامة الحجة، ولا يبدَّع المبتدع إلا بعد إقامة الحجة.
أما الكافر فإن كان كافرًا أصليًّا كاليهودي والنصراني ونحوه، فهذا كافر سواء قامت عليه الحجة أو لم تقم عليه الحجة، ويدل لذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة:6] فسماه مشركًا قبل أن يسمع كلام الله، هذا إذا كان كافرًا أصليًّا، كأن يكون يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، أو بوذيًّا، وهكذا.
أما إذا كان مسلمًا وتلبَّس بالكفر فإنه لا يُكفَّر إلا بعد توافر الشروط انتفاء الموانع، والشروط كالتالي:
أن يكون عالمًا، ويقابل ذلك الجهل.
وألا يكون متأولًا، ويقابل ذلك عدم التأويل.
وأن يتعمد القول أو الفعل، لا أن يكون سبق لسان، ويقابل ذلك سبق اللسان من عدم تعمد القول والفعل.
وأن يكون مختارًا، ويقابل ذلك الإكراه.
أما الجهل فقد جعله الله عذرًا، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15] هذا في العذاب في الآخرة، أما وصف الدنيا فإن الله سبحانه يقول: ﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:145] مفهوم المخالفة: أن من يتبع أهواءهم بلا علم، فإنه لا يكون ظالمًا.
أما التأويل فقد ثبت عن الصحابة كما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح، أنه لما تأوَّل قدامة بن مظعون -وهو بدري- وجماعة من التابعين شرب الخمر، تأولوا جوازها، أقام الحجة عليهم عمر وعلي، واتفق الصحابة على عدم تكفيرهم، وقبلوا تأويلهم.
لذا ذكر ابن حزم ثم شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصحابة مجمعون على أن التأويل مانع من التكفير، بل قال ابن حزم: وعلى هذا الصحابة والتابعون وأتباعهم، ذكر هذا في كتاب (الفصل).
أما عدم تعمد القول والفعل فيدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث أنس، فقال: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِ من أحدكم»، ثم ذكر الحديث وفيه: أن رجلًا قال اللهم أنت عبدي وأنا ربك «أخطأ من شدة الفرح»، فعذر بهذا، والله يقول: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:286].
والرجل الذي قال فيه: «أخطأ من شدة الفرح» ذكره النبي ﷺ مثلًا على وجه الإقرار، وأنه من شدة هذه الحال قال مثل هذا.
أما الإكراه فهو عذر، كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل:106].
ومثل ذلك يقال في التفسيق، فإن ما قيل في التكفير يقال في التفسيق، فمن فعل ما يوجب التفسيق لابد أن تراعى الشروط الأربع والموانع الأربع.
أما المبتدع فإن الأظهر -والله أعلم- أنه لا يعذر بجهله، فمن وقع فيما يستوجب التبديع وكان جاهلًا لم يعذر بجهله، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الأصل في كل بدعة أنها كفر، ذكر هذا الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع، منها كتاب (الإخنائية) وغيره.
وذلك أنه لو قامت الحجة على المبتدع لكان كافرًا؛ لأن حقيقة حال المبتدع أنه شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فالذي يرى أن الاحتفال بالمولد مشروع، أو غير ذلك من البدع، حقيقة حاله أنه شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهذا كفر لولا التأويل.
لذلك إذا قيل: لا يبدَّع إلا بعد أن يمتنع عن التأويل وألا يكون جاهلًا …إلخ، فلو كان حال الرجل كذلك لكان كافرًا، ولكانت القسمة ثنائية، من قامت عليه الحجة يكون كافرًا، أو من لم تقم عليه الحجة، فإنه لا يكون كافرًا ولا مبتدعًا، بل سلفيًّا، هذا عند من اشترط إقامة الحجة على المبتدع.
أما الأمر الثاني: فهو أن السلف ما كانوا يقيمون الحجة في باب التبديع، بل كلامهم كثير في تبديع الرجل ولو كان جاهلًا، ومن ذلك عقيدة الرازيَيْن التي حكوها عن السلف، فقد ذكروا: أن من شك بأن القرآن مخلوق وتوقف، قالوا: إن كان جاهلًا عُلِّم، وبُدِّع.
فجاء التبديع مع الجهل، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر، أي: إذا كان عالمًا، أما إذا كان جاهلًا فقد جعلوه مبتدعًا، إلى غير ذلك مما هو منقول عن السلف -رحمهم الله تعالى- وقد سبق وبسطت الكلام في هذا أحد الأجوبة السابقة في القناة.