يقول السائل: كثر الكلام على حرمة التطبيع مع الكفار، ما المراد به وما حكمه؟
الجواب:
ينبغي أن يُعلم أن لفظ (التطبيع) لفظ عصري، لا يصح أن يُندفع وراءه بتحليل ولا تحريم، بل لابد فيه من التفصيل، وهذا في كل الألفاظ المُحدثة لابد فيها من التفصيل، فإن كثيرًا من أهل الضلالة يُمرر باطله تحت هذه الألفاظ المُحدثة ومنها الألفاظ العصرية، فلذا لابد أن يُفصل في أمثال هذه المسائل.
وينبغي أن يُعلم أن التعامل مع الكفار أنواع ثلاثة:
النوع الأول: التعامل الكفري، وهو التولي الذي قال الله عز وجل فيه: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن التولي كفر.
والمراد بالتولي: هو أن يُحب الكافرين لدينهم فإن هذا كفر وردة -والعياذ بالله- وقد أشار لهذا الضابط القرطبي في تفسيره، والعلامة ابن سعدي في تفسيره، وشيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين في تفسير سورة المائدة، والشيخ العلامة صالح الفوزان في شرحه لـ(نواقض الإسلام) المُطوّل، فإنه سُئل ما الضابط؟ فذكر نحو ما تقدم ذكره.
النوع الثاني: الموالاة، وهي كل تعامل محرم مع الكفار مما ليس توليًا، كمحبة الكفار وعدم بغضهم، وكابتدائهم بالسلام، إلى غير ذلك من المعاملات المحرمة.
النوع الثالث: المعاملات الجائزة من البيع والشراء والصلح، إلى غير ذلك. فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فإذن باع واشترى معهم -صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك الصلح، فإنه إذا رأى ولي الأمر أن في الصلح مصلحةً فإن له أن يُصالح، وهذا من التعامل الجائز، وينبغي أن يُعلم أن الصلح أقسام ثلاثة:
القسم الأول: الصلح المؤقت، وهو الذي يُؤقت بسنة أو سنتين أو عشر سنوات أو أكثر أو أقل، وقد روى أحمد وأبو داود من حديث المسور بن مخرمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح كفار قريش عشر سنين، مع التنبه إلى أن كفار قريش مغتصبون لبيوت الصحابة ولأموالهم ولأملاكهم، ومع ذلك لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- المصلحة في مصالحتهم صالحهم عشر سنوات -صلى الله عليه وسلم-.
القسم الثاني: الصلح المطلق، وهو الذي لا يُحدد فيه زمن إلا أنه صلح غير مُلزم للمسلمين، وإن كان في الظاهر وفي ظن الكافرين أنه مُلزم، بأن يُصالح حاكم مسلم الكفار صلحًا مُطلقًا لا يُقيده بزمن ولا يؤقته بزمن، وقد ثبت هذا في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح يهود خيبر على ذلك، فقال: «نُقركم بها على ذلك ما شئنا». فأقروا بها حتى أجلاهم عمر -رضي الله عنه-.
وينبغي أن يُعلم معنى الصلح المطلق، فمعنى الصلح المطلق: أنه لا يُحدد بزمن، إلا أن ولي الأمر متى ما رأى المصلحة في نقض هذا الصلح بأن تقوى المسلمون أو إلى غير ذلك من المصالح فإنه ينقضه بعد علم الكافرين، فيخبرهم بأن الصلح انتهى كما قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58] ثم ينقض هذا الصلح، وهذا يسمى صلحًا مطلقًا، وقد أقر جوازه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه (الجواب الصحيح) وكما في (الاختيارات الفقهية)، وابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة) وفي كتابه (زاد المعاد)، وإليه ذهب الشافعي -رحمه الله تعالى- في رواية المزني عنه، وهو قول عند الحنابلة وظاهر قول أبي حنيفة.
فهذا الصلح جائز لما تقدم ذكره من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.
القسم الثالث: الصلح المؤبد بين المسلمين والكافرين، فهذا محرم وحكى ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (أحكام أهل الذمة) الإجماع على حرمته؛ لأن مؤداه إلى إلغاء الجهاد، ومن تأمل وجد أن الصلح المؤبد والصلح المطلق في ظاهره واحد، إلا أن الفرق هو ما زوره ولي الأمر في نفسه من أنه أراد الصلح المطلق لا المؤبد، لذا إذا كانت ألفاظ الصلح في الظاهر مطلقة قد يظن الظان أنها مؤبدة، وهي مطلقة، والعكس، فلذا يرجع هذا الأمر لولي الأمر.
ثم ينبغي أن يُنتبه إلى ما يلي:
الأمر الأول: أن هناك فرقًا بين حال قوة المسلمين وضعفهم، ففي حال ضعف المسلمين فإنه كثيرًا ما يكون الصلح أنفع للمسلمين، والأمر في ذلك راجع إلى ولاة أمر المسلمين، فلذا ينبغي أن يُراعى هذا وأن يُنظر إليه وأن يكون بالاعتبار، وقد ذكر ابن جرير وابن تيمية وابن القيم أن آيات السيف في حال القوة، وأن آيات الصبر في حال الضعف، لذا لم يشرع الجهاد في مكة لأن المسلمين كانوا في ضعف، بخلاف لما هاجر إلى المدينة وتقوى -صلى الله عليه وسلم- فإنه شُرع الجهاد، ولهذا تفصيله، لكن ينبغي أن يُنتبه إليه.
الأمر الثاني: ينبغي ألا يُبالغ المسلمون في حالهم، فترى كثيرًا من المسلمين قد يغضب إذا رأى صلحًا مع الكافرين من يهود أو نصارى أو غير ذلك، وكأنه يُطالب المسلمين اليوم بالقتال أو بغير ذلك، والمسلمون ليس في أيديهم شيء، بل لو تفكر العاقل وتدبر من حيث الأمر العملي في كثير من الأحيان -لا في كلها- وجود الصلح وعدم وجود الصلح مع ضعف المسلمين لا أثر له، لذا ينبغي للمسلم أن يتدبر في مثل هذا وأن ينظر.
ثم أخيرًا أختم بأن بعض المسلمين متناقض، تراه يُعظم دولًا ويُصفق لها مع أنها وقعت في التولي الكفري، وإن كان لا يُكفر الأعيان إلا بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع، بأن ذهب وعظّم عبادات اليهود والنصارى وطقوسهم إلى غير ذلك، وفي المقابل إذا رأى دولة صالحت جهة من جهة الكفار من غير تعظيم لطقوسهم إلى غير هذا، أقام الدنيا ولم يُقعدها، مع أن الأولين وقعوا فيما هو أشد، بل وقعوا في تعاون عسكري وغير ذلك.
فالواجب أن يكون المسلم بصيرًا وألا يُؤخذ بعاطفته وأن يزن الأمور بميزان الشرع، وأختم بما بدأت به: لا ينبغي أن يُندفع مع لفظ (التطبيع) فإنه لفظ عصري مُحدث مُجمل، فلابد من التفصيل فيه.
أسأل الله أن يُعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.