الخطبة الأولى:
الحمد لله ولي الاحسان ، بعث رسله بالتوحيد وجعل خاتمهم عظيم الشأن ، اشهد أن لا إله إلا هو سبحانه الرحمن ، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه من انس وجان .
والله ما في الخلق مثل محمدا في الفضل والأخلاق والاحسان
فهو النبي الهاشمي المصطفى من خيرة الأنساب من عدنان
لو حاول الشعراء وصف محمد وأتـو بأشعار مـن الأوزان
ماذا يقـول الواصفـون لأحمد بعد الـذي جاء في القـرآن
صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ، أما بعد : يقول جل وعلا 🙁 وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)
عباد الله : إِن دراسة السيرة النبوية ليست كدراسة سيرة بطل من الأبطال فحسب- وإن كان هو ﷺ بطل الأبطال ، ولا لأجل المعرفة وإشباع رغبة حب الاستطلاع ، بل للاهتداء بها وتحصيل الدروس والعبر ، وفقه معانيها فهي مادة تربوية سلوكية ، يقول علي بن الحسين زين العابدين : كنا نُعلّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلّم السورة من القرآن )
عباد الله : كنا في خطب سالفة قد توقفنا على أحداث سيرته عند تمامه العشرين عاما حين شارك قومه حرب الفجار ، وبعدها شهد حلف الفضول .
يقَولَ صاحب السير مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: شَبَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَكْلَؤُهُ اللَّهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَرِسَالَتِهِ حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنَ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي
تُدَنِّسُ الرِّجَالَ; تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا.
حتى ترامى خبره مسامع بطن مكة وأهل الوادي ، وكانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ماتعطي غيره من التجار، فَقَالَ عمه أَبُو طَالِبٍ: هَذَا رِزْقٌ قَدْ سَاقه اللَّهُ إِلَيْكَ فَقَبِلَهُ رسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا .
فَخَرَجَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَالِهَا، وخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا “مَيْسَرَةُ” ، فلما قَدِمَا “بُصْرَى” مِنَ الشَّامِ، فنَزَلَا فِي ظِلِّ شجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ يُقَالُ لَهُ “نَسْطُورٌ” فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟
فَقَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الحَرَمِ، فقَالَ
الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ .
ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَا تُفَارِقُهُ، فقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءَ.
ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ ﷺ سِلْعَتَهُ التِي خَرَجَ بِهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مُلَاحَاةٌ ، فقَالَ لَهُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وإِنِّي لَأَمُرُّ فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا”، فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، ثُمَّ اشْترَى رسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، وأَقْبلَ قَافِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ.
ومن الطبعي أن ميسرة حدث خديجة عمن صحبه في تلك المسيرة مما رآه وما سمعه عن سماحته وصدقه وكريم أخلاقه ، وكانت خديجة ابنة عم ورقة بن نوفل، وكان عنده علم بالكتب السابقة، فحدثته بما حدثها به غلامها، فقال لها: «إن كان هذا حقا يا خديجة فإن محمدا نبيّ هذه الأمة» !!.
وبَعْدَ ِشَهْرَيْنِ من رُجُوعِهماِ منَ الشَّامِ ، وبعد ما سمعت ، أمانة ورجولة واتزان ، تمنته زوجًا رغم كبر سنها بالنسبة إليه ، ورغم زواجها من قبل بزوجين توفيا عنها ، فَحَدَّثَتْ بِمَا في نَفْسِهَا إلى صَدِيقَتِهَا نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنَيَّةَ، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ فَرَضِيَ ﷺ بِذَلِكَ، وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب فخطبها إليه وتزوجها رسول الله ﷺ وأصدقها عشرين بَكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت رضي الله عنها ، وكان عمر الرسول ﷺ حين تزوج خديجة رضي الله عنها خمساً وعشرين سنة وكان عمرها أربعين سنة، وقد ولدت لرسول الله ﷺ غلامين وأربع بنات ، فجميع أَوْلَادَهُ منها عَدَا إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ القِبْطِيَّةَ.
وكَانَ أَوَّلُ مَنْ وُلدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ خَدِيجَةَ قَبْلَ البِعْثَةِ: القَاسِمُ، وبِهِ يُكَنَّى ﷺ ، ثم بناته الأربع زَيْنَبُ , ثمَّ رُقَيَّةُ ، ثمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ ، ثمَّ فَاطِمَةُ ، ثُمَّ وُلِدَ لهُ عبدالله والصحيح كما قال الامام ابن القيم أنه هو الملقب بالطَّيِّبُ والطَّاهِرُ ، فأما أولاده فماتوا أطفالا ، وَأَمَّا بَنَاتُه ﷺ فَكُلّهُنَّ أَدْرَكْنَ الإِسْلَامَ، وأَسْلَمْنَ وتوفين في حياة والدهما عدا فاطمة فقد توفيت بعده بستة أشهر .
رزقنا الله الاهتداء بسنته والسير على طريقته
أقول ما سمعتم ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفى والصلاة على النبي … أما بعد :
عباد الله : فيما سبق من خبر خديجة وتجارته ﷺ وزواجه بها ترغيب للشباب في الزواج فهو شريعة نبينا والأنبياء قبله ، واختيار الزوج للزوجة وكذا الزوجة للزوج القائم بدينه ، والمكمل خلقه ، فهما الأساس وغيرهما تبع لهما .
وفي زواجه ﷺ بخديجة ، وعيشه معها حتى توفيت عن خمسة وستين عاماً، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أخرى ، فيه دحض لما يلبس به كثير من المستشرقين وأذنابهم حيث صوّروا النبي ﷺ في صورة الرجل الشهواني ، فأين اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها في زواجه من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره ، فلو كان مهتماً بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سناً أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب النبي صلى الله عليه وسلم لشرفها ومكانتها في قومها فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
وفيه أن التجارة مورد من موارد الرزق يستغني بها المسلم عن الآخرين وعن سؤالهم ، سخرها الله لرسوله ﷺ قبل البعثة وقد تدرب النبي ﷺ على فنونها، وقد بين النبي ﷺ فيما رواه الترمذي وجود اسناده شيخ الإسلام أن( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ )
أنار الله بصائرنا بهداه ورزقنا محبته