يقول السائل: أرجو بيان الموقف الشرعي من مشاركة بعض الجماعات المنتسبة إلى الدعوة السلفية في العمل السياسي في الدول ذات النظام الجمهوري والمتعددة الأحزاب، ويحتجّون بأن هذه المشاركة السياسية من باب مُدافعة الباطل الموجود في بقية الأحزاب العلمانية ومن باب تخفيف الشر
الجواب:
أسأل الله أن يُعز دينه وأن يُعلي كلمته، وأن يرفع راية التوحيد والسنة، إنه أرحم الراحمين.
الجواب على مثل هذا السؤال يطول، لكنني أُشير إلى أمور:
الأمر الأول: الدعوة السلفية مبنيةٌ على إصلاح الشعوب وأولى ما تعتني به التوحيد والسنة، وترك البدعة، ونشر الإسلام الصافي النقي الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادات والمعاملات وغير ذلك، فهي دعوة تشتغل بإصلاح الشعوب، وذلك أنه إذا صلحت الشعوب صلح الحكام، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].
قال ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة): عُمَّالكم أعمالكم، فإذا صلحَت أعمالكم صَلَح عُمَّالكم -أي حكامكم-.
وقد دلت على هذا الآية السابقة، ودلَّ على ذلك ما ثبت في سيرة ومغازي ابن إسحاق، أن كفار قريش عرضوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُملَّكوه وأن يكون ملكًا ورئيسًا عليهم فلم يلتفت إليهم، لعلمه أن الإصلاح يكون من الشعوب لا من القمم فحسب.
ويؤكد ذلك أن النجاشي -رحمه الله تعالى- أسلم وآمن وما استطاع أن يُظهر إسلامه، مع أنه كان ملكًا، وما استطاع أن يُلزم قومه بالإسلام ولا أن ينشره، بل ذكر ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة): وقد قيل إنه كان لا يُصلي.
فإذن إذا صلحت الشعوب صلحت القمم، وليس معنى هذا إهمال القمم والرؤساء، بل يُناصحون، لكن لا يصح أن يُعتقد أن الإصلاح يكون بالرؤساء وبتولي الحكم، لما ظنَّ هذا كثير من الجماعات الحزبية والحركية، صار ديدنهم وسعيهم في محاولة الوصول للحكم، لذلك أهملوا أشياء كثيرة وأخَّروا الإصلاح حتى يصلوا للحكم، فلا هم وصلوا للحكم ولا هم أصلحوا. ولا أريد أن أُطيل في مثل هذا.
الأمر الثاني: الدول الديمقراطية مبنية على الكثرة وكثرة الأصوات، فإذن رجعت إلى حكم الشعب بالشعب، فلو تولى مُصلح والشعب على خلاف قوله، صوَّت الشعب على خلاف ما يريد، فألزموه بما يريدون، فلذلك يكون الإصلاح من جهة الشعوب، وهذه إشارة ينبغي التنبُّه إليها، فلذا في الدول الديمقراطية يُحاول المسؤولون أن يُرضوا الشعوب حتى يستمر حكمهم وحتى لا ينقضوا أحكامهم فيما يصح للشعب أن ينقضوا فيه الأحكام باختلاف الأنظمة من دولة إلى دولة.
فلذا لا يستطيع سلفي إذا تولى أن يُلزم الناس بالسلفية، أو أن يسمح بها على صورتها الشرعية، من نشر التوحيد والسنة والولاء والبراء على ذلك، فإن البقية لا يرضون بهذا، فليُختصر الطريق وليُشتغل بإصلاح الشعوب.
الأمر الثالث: من الملاحظ واقعيًا أن كل من دخل السياسة للإصلاح فَسَد، وكما قال العلامة المجدد الكبير الألباني -رحمه الله تعالى-: دخلوا ليُغيروا فتغيروا. وهذا واقع، وذلك أن الكلمة في أمثال هذه الأمور للشعوب كما تقدم، فلابد أن يُرضيهم حتى يستمر، هذا أولًا، وثانيًا: يريد أن يُسايس المسؤولين، وثالثًا: كثير من الناس إذا دخل في أمثال هذه المناصب ابتُلي بحب الرئاسة، فإن حب الرئاسة مفطور في النفوس، والنفس مُطالب بمجاهدتها، لذا كثير ممن يدخل في هذه الأبواب يُفتن، فينسى منهجه ودينه الذي كان يدعو إليه في مقابل محاولة الاستمرار في الجاه والرئاسة، إلى غير ذلك.
لذا يا إخواني، اتقوا الله ولا تسلكوا أمثال هذه المسالك، واشتغلوا بإصلاح الشعوب، إن من نظر إلى القاعدة في ظاهرها أن الدخول في أمثال هذه الأمور من باب تخفيف الشر، والدين جاء بجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، اغترّ، لكن من عرف الحقيقة بما تقدم ذكر بعضه، علم أن هذا ليس موضع هذه القاعدة، وأن الواقع أنهم يُفسدون ولا يُصلحون، بل أحيانًا يُفسدون باسم الدين، فيصبح شرهم أعظم وأعظم، وأحيانًا يحاول أن يُثبت أنه ليس منتميًا للسلفيين ولا للمُصلحين، فيُعاديهم ويُظهر عداءهم ليُثبت للجماهير وللمسؤولين الآخرين أنه قد تبرَّأ من عباءته الأولى.
أسأل الله أن يُعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.