يقول السائل: ما موانع التكفير الأربعة؟ نرجوا التفصيل.
الجواب:
إنه قبل تكفير أحدٍ فإنه لا يصح أن يوصف أحد بأنه قد كفر إلا بعد أن يثبت بالدليل أن ما وقع فيه كفر، سواء كان اعتقادًا، أو فعلًا، أو قولًا.
فإذا ثبت في الشرع أنه كفر، فبعد ذلك لا يحكم على المعين، فيقال: إن فلانًا فعل الكفر، أو قال الكفر، أو اعتقد الكفر، لكن لا يحكم على هذا المعين بأنه كافر إلا بعد توافر شروط أربعة وانتفاء موانع أربعة.
وقبل ذكر هذه الشروط والموانع، فقد أفاد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أنه ليس كل من وقع في الكفر بأن فعله أو اعتقده أو قاله يكون كافرًا إلا بعد أن تتوافر في حقه شروط التكفير وتنتفي عنه الموانع، وذكر -رحمه الله تعالى- أنه قد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والاعتبار، ذكر هذا كما في (مجموع الفتاوى).
فإذن فِعل المعين للكفر لا يلزم منه أن يكون كافرًا، ففرق بين الوقوع في الكفر، وبين أن يوصف المعين بأنه كافر بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار -أي: القياس- هذا الذي ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- كما في (مجموع الفتاوى).
ولشيخنا العلامة محمد بن صالح عثيمين -رحمه الله تعالى- كلام كثير في تقعيد مثل هذا، ومن ذلك كلامه في أواخر (القواعد المثلى).
إذا تبين هذا، فإن المعين لا يكفر إلا إذا توافرت في حقه شروط أربعة، وانتفت عنه موانع أربعة.
الشرط الأول: فالعلم، والمانع الذي يقابله الجهل، والدليل على هذا الشرط قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15] هذا فيما يتعلق بالعذاب، أما فيما يتعلق بالوصف فهو قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145] فهذا في الوصف.
فلا يقال: فلان كافر إلا بعد أن يتحقق في حقه العلم، وهذا هو الذي تدل عليه هذه الآية؛ لأنه قال: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [البقرة: 145] مفهوم المخالفة: إن لم يكن عنده علم لم يتصف بكونه ظالمًا أو كافرًا أو فاسقًا على ما يقتضيه الحال، وبحثنا يتعلق بالتكفير.
إذن يكون في الكفر بألا يقال: بأنه كان كافرًا، هذا هو الشرط الأول ومانعه.
الشرط الثاني: فهو التأويل السائغ، فإن التأويل السائغ مانع من التكفير، والشرط هو التأويل، إذا كان عنده تأويل سائغ فإنه يمنع من تكفيره، وإذا كان تأويله غير سائغ فوقع في مكفِّر فإنه يكفر.
والدليل على أن التأويل مانع من التكفير أدلة، منها: ما ثبت عند الرزاق في قصة قدامة بن مظعون البدري -رضي الله عنه- أنه هو وجماعة من التابعين استحلوا شرب الخمر، متأولين قول الله عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ [المائدة: 93].
قالوا: نحن اتقينا الله، إذن لا جناح علينا في أن نطعم ما نشاء، ومن ذلك الخمر، فلما شربوا الخمر، وأتوا إلى عمر وعلي فإنهم لم يكفروهم، بل أزالوا عنهم الشبهة، وبينوا لهم خطأ تأويلهم.
قال ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: ” وبهذا يعلم أن التأويل مانع من التكفير بإجماع الصحابة “، وقد قرر مثل هذا ابن حزمٍ في كتابه (الفصل)، وحكى إجماع الصحابة والتابعين لهم.
إذن، فالتأويل السائغ مانع من التكفير.
وينبغي أن يُعلم -وهذه للفائدة- أن التأويل فرع عن الجهل، من تأول تأويلًا غير سائغ فهو جاهل، لكنه بعبارة المناطقة يقال: جهله جهل مركب؛ لأنه ترك الشيء، وظن أن الحق في خلافه، وليس جهله جهلًا بسيطًا، وإنما جهله جهل مركب، فالمقصود أن التأويل مانع من التكفير.
الشرط الثالث: قصد القول أو الفعل الكفري، فإن هذا شرط للتكفير، ويقابله عدم قصد القول أو الفعل، كأن يكون من باب سبق اللسان ونحو ذلك.
ويدل لذلك ما أخرج الشيخان واللفظ لمسلم في قصة أنس، والحديث طويل، وهذا الحديث في مسلم، وهو حديث أنس الطويل، والذي فيه: أن الرجل من شدة الفرح تلفظ بشيءٍ لا يريد أن يتلفظ به، ليس قاصدًا أن يقول هذا القول، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح، فمن كان كذلك فإنه يعذر ولا يكفر.
ومثل ذلك لو أن رجلًا معه كتاب، فرماه، فسقط على الأرض، فلما رأى الكتاب فإذا به قرآن، وهو لا يعلم أنه قرآن، فهو ليس مختارًا لرمي القرآن.
وأوضح من هذا مثال: رأى شيئًا أراعه فرمى ما في يده، وكان مما رماه قرآنٌ، فمثل هذا لا يقال: إنه كافر؛ لأنه ليس مختارًا لهذا الفعل.
وينبغي أن يفرق بين أمرٍ، بين قول الجهمية لا يكفر الرجل حتى يريد الكفر، وبين هذا الشرط، فإن الجهمية تقول: لا يكفر أحد حتى يريد الكفر، ورد عليهم شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- كما في المجلد السابع من (مجموع الفتاوى) وقال: على قولكم: لا يكفر حتى إبليس؛ لأن إبليس ما أراد الكفر، الصحيح أن إبليس أبى واستكبر بقصد، لكنه ما أراد بذلك الكفر.
ويلزم على قولهم: من ذبح لغير الله، ودعا غير الله، وهو يقول: أنا لا أريد الكفر، أنه لا يُكفر، وهذا ضلال مبين، فرق بين أن يقول القائل: لا يكفر أحد حتى يريد الكفر، وبين أن يقال: لا يكفر حتى يقصد الفعل أو القول، حتى يكون مريدًا أن يفعل هذا الفعل، ومريدًا أن يقول هذا القول.
وهذا يتضح بالمثال: أن من حصل عنده سبق اللسان، أو رمى شيئًا في يده لأجل شيء أراعه، فمثل هذا لم يرد الفعل، فرق بين إرادة الفعل أو القول أو إرادة الكفر.
فإن من قال: لا يكفر أحد حتى يريد الكفر، فقوله: ضلال مبين، ويلزم منه أن من ارتكب كل المكفرات، لكنه قال: أنا لا أريد الكفر، أنه لا يكون كافرًا، ومما يرُدُّ ذلك تكفير الله لإبليس، وإبليس أبى، كما قال الله عز وجل: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: 34] فكفر بذلك، وليس في الآية أن إبليس أراد الكفر.
الشرط الرابع: الاختيار، ويقابله الإكراه، بمعنى: من فعل الكفر مختارًا غير مكرَهٍ فإنه يكون كافرًا، لكنه لو كان قد أُكرِه على الكفر فإنه لا يكفر، كما قال سبحانه: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].
فإذن يكفر الرجل بعد أن يفعلَ المكفِّر إذا توافرت في حقه هذه الشروط، بأن يقال: إنه عالم، وليس عنده تأويل سائغ يمنع من تكفيره، وأن يكون قاصدًا للفعل أو القول بألا يكون سبق لسان ونحو ذلك، وأن يكون مختارًا لا مكرهًا.
هذه الشروط الأربعة والموانع الأربعة، وهي مستفادة من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وبعضه منثور في كلامه.
فينبغي أن نكون حذرين من التعجل في التكفير؛ للأحاديث التي فيها: «من قال لأخيه: يا كافر، فإن كان فيه كما قال، وإلا رجعت عليه»، كحديث ابن عمر، وأبي هريرة وأبي ذر، وكلها مخرجة في الصحيح.
وقد فصلت مسائل التكفير في شرحي على (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد) للإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، وهو موجود في موقع الإسلام العتيق، لمن شاء ذلك.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.