أولًا: مِمّا هو مهم، أن يعرفه السائل وغيره أن مما تميزت به دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنها دعوة تجديدية في باب الفقه، فمِن أميز مزايا هذه الدعوة أنها قامت قَومَة شديدة ضد التقليد، وكانوا يحاربون التقليد المذموم، وللإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كلام كثير في هذا، موجود في “الدرر السنية“ وفي غيرها، بل في كتاب التوحيد ذكر بابًا يتعلق بهذا، وهو باب“مَن أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرَّم الله أو تحريم ما أحلَّ الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله“، ثم هكذا صار أئمة الدعوة على هذه الطريقة.
فمن مزايا دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنها تجديدية حتى في باب الفقه، صحيح أنه ينتسب للمذهب الحنبلي لكن ليس معنى هذا التعصب له، وهذا مما بيَّنه رحمه الله تعالى، وكَتَب رسائل في هذا، ومما ذكر في “الأصول الستة“ ذكر أصلاً يتعلق بإتباع الدليل، وذم التقليد المذموم، وحرمة القول بأن الاجتهاد قد انتهى، أو المبالغة في الاجتهاد، حتى قال: “إنهم يذكرون شروطًا لا تكاد توجد في أبي بكر ولا عمر“إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
فهي دعوة تجديدية قامت على التوحيد، ومما قامت عليه: إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإتباع والانتساب.
ومما ينبغي أن يُعلَم أن الانتساب إلى أحد المذاهب الأربعة لا ينافي إتباع الدليل وترك التقليد؛ لأن الانتساب إلى المذاهب الأربعة هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما في “مجموع الفتاوى“ كانتساب الرجل إلى بلده أو نسبه إلى غير ذلك.
يعني أن الرجل إذا قال: أنا حنبلي، فكأنه يقول: أنا تفقَّهت على المذهب الحنبلي، وليس معنى قوله: أنه يتعصب إلى المذهب الحنبلي، ويردُّ الدليل إذا جاء بما يخالف المذهب الحنبلي، بل معنى قوله: إنني تفقهت على المذهب الحنبلي، وكذلك إذا قال الرجل: أنا شافعي أو مالكي أو حنفي.
وهذا ليس مذمومًا، والعلماء درجوا عليه، ولو كان مذمومًا لذَمَّه العلماء السابقون، وقد سار العلماء على هذا من قرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن كثير والمِزِّي إلى عدد كبير من علماء الإسلام.
فالمقصود أن الانتساب إلى المذهب الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي ليس مذمومًا، وإنما هو إخبار بأنه تفقَّه على هذا المذهب، لكن المذموم هو ما شاع وانتشر عند كثير من المنتسبة إلى المذاهب الفقهية، وهو أنهم يتعصبون إلى هذه المذاهب، ويقدِّسون متونها ولو كانت مخالفة لأدلة الكتاب والسنة أو لإمام المذهب.
ومن كلمات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كما في “الدرر السنية“ أنه قال: وأكثر ما في“الإقناع“ و“المنتهى“ مخالف لنصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وهذا يدلك على عمق عنايته باتباع الدليل وعدم التعصب للمذهب.
ولكن مما أشير إليه أنه إذا لم يكن هناك حاجة للانتساب إلى المذهب فلا داعي للانتساب إليه، وإنما يُنتَسب إليه عند الحاجة.
لنفرض أن رجلًا في بلد يريد أن يقيم دعوة، وأهل تلك البلد ينتسبون إلى المذاهب، وإذا لم ينتسب الرجل إلى مذهب فإنه سيُذمّ أو يُنتَقَص أو يُحارَب أو يُقَال: أتى بمذهب بِدعِيٍّ إلى غير ذلك فإنه ينتسب إلى المذهب الذي تفقَّه عليه، وهذا الانتساب لمصلحة.
أما إذا كان في بلد لا حاجة للانتساب إلى مذهب؛ فإن مثل هذا لا داعي للانتساب، بل إن الانتساب قد يسبِّب شيئًا من الفُرقَة؛ لذا الأحسن في مثل هذه الحالة أن يُترَك لاسيما نحن في زمن قد خرجت أثر بركة دعوة الإمام عبد العزيز بن باز والإمام الألباني والإمام ابن العثيمين، فيترك التعصب للمذاهب، وإظهار الدليل إلى غير ذلك.
لكن لو قُدِّر أن الحاجة قد دعت إلى ذلك، وهذا موجود في كثير من الدول الأخرى التي يكون أهلها متعصِّبين للمذهب الحنفي أو الشافعي أو غير ذلك فلأصحابها لومن أراد أن يدعو في تلك البلد أن يظهر انتسابه إلى مذهب فقهي، ويُظهِر أنه متبع للدليل، وأن هذا لا ينافي الدليل، وينقل نقولات مؤيدة لذلك من كلام علماء المذهب، ومن كلام أئمة المذاهب الأربعة؛ فإن لهم كلامًا عظيمًا في اتباع الدليل، وترك التقليد إذا ظهر الدليل، وقد نقل شيئًا من ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه “إعلام الموقعين“، وكذلك ابن عبد البر في “جامع العلم وفضله“، وكذلك العلامة الألباني في أوائل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما أريد أن أنقله من كلام الإمام عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب كما في “الدرر السنية“ في رسالة لأهل مكة، ومما قال رحمه الله تعالى، قال في ضمن بيانه لأهل مكة ما مذهبهم، وما طريقتهم في الفقه؟ وما طريقتهم في الاعتقاد؟ إلى غير ذلك، فذكر رحمه الله تعالى في ثنايا كلامه أنه على المذهب الحنبلي، ويقول: ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قَلَّد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير إلى أن قال: “ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصِّص ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة… إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى، قال: “ولا نُفتِّش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نصٍّ جَلِيٍّ مخالفٍ لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلًا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وكلام كثير في هذا، فأحب أن يعرف إخواننا لهذه الدعوة التجديدية مكانها، وأن لا يظنوا أنها دعوة تقليد وتعصب لمذهب، بل هي دعوة للاجتهاد لكن بالضوابط الشرعية.
أما ما ذكر السائل: ما الكتب الفقهية الحنبلية التي يعتمدون عليها؟
لا نعرف كتابًا معيَّنًا يعتمدون عليه دون غيره، منهم من استفاد كثيرًا من “الروض المربع“، كما هو حال الشيخ عبد الله بن بابطين رحمه الله تعالى، واستفاد من غيره من كُتُب أهل العلم، ومنهم من استفاد من غير ذلك من كُتُب المذهب الحنبلي، بل وهم يتوسَّعون أيضًا حتى في كُتُب التفسير، وفي كُتُب الفقه، و غير ذلك، حتى مما ذكر الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب قال في تتمة الكلام: “ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومِن أجلِّها لدينا “تفسير ابن جرير“ ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالَين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على “مسلم“، والمناوي على “جامع الصغير“.
ونحرص على كتب الحديث خصوصًا، الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولًا وفرعًا وقواعد، وسِيَرًا، ونحوًا، وصرفًا، وجميع علوم الأمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلًا، إلا ما اشتمل على ما يُوقِع الناس في الشرك“، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يُعلِّمَنا ما ينفعنا، وأن ينفَعَنا بما عَلَّمَنا، إنه الرحمن الرحيم، وجزاكم الله خيرًا.