محض النصح لابراهيم السكران-نقد لمقالته المعنونة بمفاتيح السياسة الشرعية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وعبده ,,,,, أما بعد :
من المؤلم جدًا أن ترى الباطل يخرج ممن يتحرى الحق, ولكن قدر الله مقدورًا, وليس للناظر إلا محض النصح لمن يظن فيه الخير, ولو كان النصح فيه من الخشونة ما يستنكره الغبي وينتفع به الذكي, فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحدهما الأخرى وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة كما قاله شيخ الإسلام.
ويقول رحمه الله عند حديثه عن منشأ الميل والضلال عن الحق عند المخالفين لأهل العلم بالكتاب والسنة المقتفين لسبيل رأس مؤمني هذه الأمة ما نصه : ” أن غالب ما يزعمونه برهانًا هو شبهة …وغالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة، أوهمت الغِرَّ ما يوهمه السراب للعطشان”. انتهى [من كلام شيخ الإسلام بتصرف غير مخل]
وقد طّل علينا الأستاذ ابراهيم السكران بمقالة عجيبة غريبة بل هي أجنبية عن طريقة أهل الفقه في الدين في العرض والاستدلال, وشبيهة بطرائق أهل الضلال المتلمسين للشبهات وعرضها في قالب البرهان والبينات, فهي بحذافيرها على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه المتقدم :
إما شبهة يحسبها المستدل برهانًا ,
أو دعوى لا حقيقة لها ,
أو قياس فاسد ,
أو الخلط بين القضايا الجزئية والكلية ,
أو التمسك بالألفاظ المشتركة وإسقاطها بحسب الهوى .
ولا يقع في هذا المسلك إلا من قرر ثم ذهب يُقعّد, واعتقد ثم ذهب يستدل.
وبوضوح شديد فالذي قرره أبو عمر السكران ونسي أن ينص عليه ما حاصله : (( ابشروا يا معشر المفتونين بالديمقراطية, فالديمقراطية من دين محمد صلى الله عليه وسلم وعليها أتباعه الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وإن جهل ذلك الأئمة والفقهاء قديمًا وحديثًا )) !!!
فقد ذهب الأخ ابراهيم سلمه الله من الشبهات إلى اختزال الديمقراطية بما فيها من مساواة الكريم باللئيم, والعالم بالجاهل, والتقي بالفاجر, والكبير بالغر الصغير, والعاقل بالمعتوه, والرجل بالمرأة, والحر بالعبد, فاختزل كل ذلك بمسألة الشورى والتي هي تكرمة لهذه الأمة الوسط الخيار من بين الأمم !!
فكيف تكون هذه التكرمة متضمنة للظلمات التي تتضمنها الديمقراطية الغربية الفاسدة عقلًا وشرعًا عند أصحاب النقل والعقل ؟
من هنا تعلم أن الشورى بريئة تمامًا من دعوى الأستاذ ابراهيم السكران في جعلها عامة في المسلمين, بل وحق من حقوق جميع الأفراد بمختلف أصنافهم وصفاتهم كما عنون له بقوله : ((الأصل في الشورى أن تكون عامةً في المسلمين، لا خاصةً بطائفةٍ منهم)) .
وهذا هذيان اشتبه على الأستاذ السكران فظنه برهان, وإلا لو تأمل في لازم ذلك, وهو أن كل فردًا من أفراد الأمة له حق في الشورى بغض النظر عن صفته وحاله, لعلم بطلان هذا الهذيان الذي لا يقوله فقيه ولا متفقه .
فهل للخارجي الفاسق حق في اختيار عثمان رضي الله عنه أو عدم اختياره ؟
وهل للناصبي الفاسق حق في اختيار علي رضي الله عنه أو عدم اختياره ؟
بل هل لهما حق في اختيار من يمثلهما في الشورى وفي اختيار إمام الأمة, وهما على هذه الحال البائسة في الاعتقاد ؟!
وعلى ذلك فقس إن كنت من أهل القياس والنظر في الشريعة الغراء البيضاء النقية !
فإن سلمت بأن لا , فيلزمك فساد تقريرك للعموم, والعودة إلى أن الشورى لا تكون إلا لمن هم أهل للشورى, ولذلك تجد الفقهاء يخصون الشورى بأهلها فيقولون (أهل الشورى), وهذا مثل الشمس في أن الشورى خاصة بطائفة من المسلمين وليست بحق لعمومهم وأما باقي الأوصاف فهي أوصاف لموصوف واحد فإذا تعين أهل الشورى لزمهم اسم (أهل الحل والعقد) وكانوا من (أصحاب الشوكة) وغير ذلك من الاسماء التي تتلازم فيما بينها .
فإن قال الأستاذ ابراهيم سدده الله وقد قال : ((أهل الحل والعقد مفهوم تمثيلي لا تخصيصي)) … ولذلك فإن الذي يظهر هو أن “أهل الحل والعقد” ليس تخصيصاً للشورى وافتئاتاً على حق بقية الأمة، بل هو أقرب لكونه مفهوم تمثيلي في ظل ظروف يستحيل فيها إجراء الاتصال الدقيق بالأفراد، فأهل الحل والعقد) كان هو أقرب نموذج سياسي يتيح إمكانية معرفة ما ترضاه الأغلبية”.انتهى
قلت : لا أدري لماذا ضرب المفاهيم بعضها ببعض, وزرع الإشكالات بينها دون وجودها من الأصل ؟ فكون أهل الشورى طائفة خاصة لا ينفي أنهم طائفة تمثل الأمة في إبداء الشورى في مسائل الحكم والولايات وغيرها, ولكن لأن الاعتقاد عازه الاستدلال, نصب الأستاذ السكران هذه المعارضة وساق عليها هذا السؤال, ليقول بلسان الحال : ولو أن أهل الشورى في الواقع هم طائفة خاصة ولكنهم مجرد ممثلين عن الأمة, ودام أنها مجرد هيئة تمثيلية للأمة فمرد الحق لأفراد الأمة فردًا فردًا.
وهذا التقرير فاسد ولو أنصف الأستاذ وكان صريحًا لطرح محل النزاع الحقيقي وهو : هل لكل فرد من أفراد الأمة حق في اختيار من يمثلها في الشورى ؟وهل هذه الطريقة شرعية في تعيين من هم أهل للشورى ؟
ولكن الأخ ابراهيم بصره الله بالطريق زاغ أو اُزيغ عن ذلك, لسلوكه غير طريق الهدى في بحثه هذا للأسف, والله المستعان وثم أتى بهذه الطامة التي يقول فيها :“وطوال بحثي في مسائل السياسة الشرعية لم أجد نصاً واحداً من كتاب الله أو سنة رسوله أو آثار الصحابة يخص شورى التولية بطائفة معينة، ومن ادعى من أهل العلم المعاصرين تخصيص شورى التولية بطائفة معينة من حيث الأصل فعليه الدليل”. انتهى
أقول : سبحان الله كيف تتعامى أو تغفل عن بيعة السقيفة يا أستاذ ابراهيم !سبحان الله كيف تتعامى أو تغفل عن استخلاف أبي بكر للفاروق رضي الله عنهما .
سبحان الله كيف تتعامى أو تغفل عن أهل الشورى الستة الذين اختارهم عمر وحده رضي الله عنهم أجمعين. ألا تعلم بأن ذلك كله قد تم بين الصحابة رضي الله عنهم بلا نكير من أحد منهم على هذا التخصيص؟ ألا يقوم قائم بحجة الله فيقول لهم لماذا يا أبا بكر لم تجعلها شورى في المسلمين فترسل لعموم الصحابة فضلًا عن باقي الأقطار ؟
لماذا يا عمر تستبد بالرأي وتخصص ستة نفرًا للشورى في تولية خليفة لك ؟ولا حاجة للاستدلال بالإجماع السكوتي وهو حجة, وحسبنا أن الشرع والعقل متفقان, على حجية عدم استحقاق غير المختارين من قبل عمر رضي الله عنه في أمر اختيار خليفة له, لو كان للمخاطَب عقلًا يعقل به, إن فقد البصيرة في تحصيل الدليل الشرعي والله المستعان .
ومن المعلوم أن مسألة تولية إمام للمسلمين من المسائل التي تنزل بهم فهي داخلة في قوله تعالى { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }[النساء:83]. أليس في هذه الأية دليل يكفي يا أستاذ ابراهيم !؟
فإن أبيت فيؤكد هذا الاستدلال فهم الصحابي الجليل المفترى عليه من السكران وغيره, وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه الذي نسب إليه السكران وغيره بأنه أول من أخذ بنظام الانتخاب في الإسلام زعموا وإنه لم يترك من الشورى حتى العذارى في خدورهن !!! فقد أخرج الأئمة أحمد والبخاري والنسائي وابن حبان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال له : أن رجلًا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال إن فلانًا يقول: لو قد مات عمر رضي الله عنه بايعت فلانًا.
فقال عمر رضي الله عنه: إني قائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.
قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس فأخشى ان تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكنًا فيعون مقالتك ويضعونها مواضعها” وهذا لفظ الإمام أحمد .
ولفظه عند الإمام البخاري : ” قلت: لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله – عليه الصلاة والسلام – من المهاجرين والأنصار فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها “.
وعنده في لفظ أخر : ” فقال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإني أرى أن تمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة والسلامة وتخلص لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم “.
وعند الإمام النسائي بلفظ : ” قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل ذلك يومك هذا فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم فأخشى أن تقول مقالة يطيرون بها كل مطير ولا يضعونها على موضعها فانتظر حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والطاعات والإيمان تختص بفقهاء الناس وأشرافهم تقول ما قلت متمكنا فيفهمون مقالتك ويضعونها على مواضعها”.
وعند الإمام ابن حبان بلفظ : ” فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير الؤمنين لا تفعل ذلك يومك هذا فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالا أن يطيروا بها ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها أمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص لعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها على مواضعها” .
والشاهد من الحديث تخصيص عبد الرحمن وعمر المدينة كمكان وأعيانها كأفراد وليس كل أفراد أهل المدينة بل خص علماء الصحابة وأهل الفقه وأشراف الناس وذوي الرأي فيهم, بالحديث في مسألة تولية الحكم, وبالمقابل نفى رضي الله عن ابن عوف, دخول رعاع الناس وغوغائهم في هذا الأمر ,
فأين البصيرة يا أستاذ ابراهيم وأنت تقف على هذا الأثر العظيم والذي هو منهج صريح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آلية اختيار الإمام وتحديد أهل هذا الأمر ونفي دخول غيرهم فيه, وبالسياق وبصنيع عمر رضي الله عنه عند طعنه بتحديد الشورى بستة نفر من علماء الصحابة رضي الله عنهم يُفهم قوله : ” فمن بايع أميرًا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة ان يقتلًا ” .
فالمقصود بقوله ” من غير مشورة المسلمين ” أي من كان أهلًا للشورى من المسلمين ممن يختارهم الإمام, وليس كما فهم الأستاذ ابراهيم وأن المراد بهذه الألفاظ وغيرها ظاهرها وأن المقصود عموم المسلمين, واُزيغ سدده وبصره عن مدلول اللفظ وأنه من العام الذي اُريد به الخصوص وهو واضح من السياق ومن فعل عمر رضي الله عنه وإقرار الصحابة رضي الله عنهم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومن هذيان الأستاذ ابراهيم السكران قوله : ” يتساءل كثير من قراء السياسة الشرعية لماذا لم يطبق الصحابة فكرة صناديق الاقتراع أو تعميم الشورى فرداً فرداً في مملكتهم الإسلامية؟ والحقيقة أن هذا التساؤل ينطوي على إهدار مضامين تاريخية جوهرية، فمن الاعتبارات الهامة التي يجب مراعاتها في البحث في مسائل السياسة الشرعية هو (تطور وسائل الاتصال المعاصرة) ….. فقبل تطور وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن بالإمكان أصلاً تطبيق الاختيار العام، أو الاقتراع العام، بهذا الشكل الذي نراه اليوم”.انتهى
أقول : أليست شريعة الله تعالى صالحة لكل زمان ومكان, والمشرّع سبحانه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ؟ والذي نفسي بيده إن إكذوبة الاقتراع العام ولو كانت بنسبة ثلث الأمة لهو من التكليف بما لا يطاق وفيه من العنت والحرج والمشقة ما هو منفي عن شريعة الإسلام السمحة, فكيف يزعم الزاعم بأن اقتراع الأمة بأسرها حق من حقوقها؟!
فما هذه الدعاوى إلا أوهام وخيالات جاهل بالحقيقة غارق في الأحلام, أو حركي حزبي طمس الله على قلبه فأصبح يرى الفساد صلاحًا والصلاح فسادًا والعياذ بالله, فليس في هذه الطريقة شيء من المصلحة التي تتشوف إليها الشريعة المحمدية, بل فيها نقيضها من المفاسد التي لا يعلم بحجمها إلا الله تعالى ومنها التحزب والتشرذم والتفرق, وتعطيل مصالح المسلمين, وشراء الذمم, ونشر الفساد الأخلاقي, والكذب, والعراك, وحصول البغضاء بين المسلمين.
ومن هذيان أستاذنا السكران قوله : ” ومن الإشكاليات التي تعترض مفهوم أهل الحل والعقد كونه مفهوم حادث، ولم يرد في نصوص القرآن والسنة، ولا في آثار الصحابة والتابعين، وقد فتشت مدةً طويلة في كتب السنن والآثار والتفاسير المسندة عن وجود هذا المفهوم فلم أجده، وأول استعمال وجدته لهذا المفهوم في القرن الثالث ثم شاع بسرعة عجيبة، فليت من يجد استعمالاً لهذا المصطلح في النصوص أو آثار الصحابة يفيدني، وعدم وجود هذا المفهوم في القرآن والسنة وآثار الصحابة لا يدل على بطلانه طبعاً، وإنما عدم وجوده يعني أنه (يستدل له) لا أنه (يستدل به)، فقد يكون مفهوماً سبكه بعض أهل العلم لاستخلاص معاني نصوص معينة، لكني لم أجد هذا المفهوم بنصه، ولم أجد أدلةً عليه (بمعناه التخصيصي)، وإنما وجدت في النصوص نقيض هذا المفهوم (بمعناه التخصيصي) حيث وجدت نصوص وآثار الشورى تدل على تعميم الشورى في المسلمين”.انتهى
أقول : من الحيل الشيطانية هدم المصطلح لينهدم معناه المتفق عليه, ومن المعلوم أن العبرة بالمعاني لا بالمباني, فهب يا أستاذ ابراهيم عفا الله عنك أننا تركنا اصطلاح الفقهاء وأخذنا بفقهك الجديد, فماذا تقترح علينا إذا أرادنا أن نصطلح على تسمية المسلمين المؤهلين الذين يحلون ويعقدون البيعة للحاكم ؟إذن فهذا التحايل لا داعي له, فأدلف إلى مبتغاك ولا تجبن وقل: ليسوا بأهل حل وعقد وإنما هم يجب أن يكونوا منفذون لرغبات الشعب ونزواته !!!!
فإذا قال لهم الشعب : بايعوا فلانًا بايعوه, وحلوا بيعة فلان فحلوها, وافعلوا كذا فعلوا , أو اتركوا كذا تركوا , والشعب فيهم المتردية والنطيحة وما لفظ السبع وأكل !!؟
يقول الأستاذ ابراهيم السكران : “أننا لو قلنا أن أهل الحل والعقد هم العلماء والوجهاء ورموز القوى المجتمعية، فالسؤال الذي سيلي هذا التقرير هو: ومن الذي سيحدد أهل الحل والعقد؟ والجواب المعقول هاهنا أن يقال: أهل الحل والعقد يختارهم المجتمع المسلم”.انتهى
أقول : هذه هي الخلاصة المرادة من الهذيان الذي قدم به الأستاذ ابراهيم عافاه الله, ولو دلف لمحل النزاع لما وقع فيما وقع من هذيان, فالحري بالبحث والنقاش هو هذا : من يحق له اختيار أهل الحل والعقد الموكول لهم اختيار الحاكم ؟فإذا قال الأستاذ ابراهيم : المجمتمع المسلم هو الموكول باختيار أهل الحل والعقد . قلنا : ما المراد بالمجمتع المسلم هل تعني الصفة الاعتبارية , وهل هي كائن حي ؟! إذن : من من المجمتع المسلم يحق له اختيار أهل الحل والعقد ؟ قد أبطلنا سابقًا اختيار عمومهم , فما بقي إلا أن يكون الجواب : من هو أهل لئن يختار ؟
ويحصل بهذا الدور وهو : ترتيب الشيء على شيء مترتب عليه ! فعاد الأمر إلى الأهلية وبطل المذهب بالكلية يا أستاذ ابراهيم إن كنت من الموقنين .
وللأسف فقد نقلت لنا ما لم تستفد منه كنقلك عن الحنابلة (بيعة أهل الحل والعقد، من العلماء ووجوه الناس، الذين بصفة الشهود، من العدالة وغيرها، ولا نظر لمن عدا هؤلاء، لأنهم كالهوام)[كشاف القناع:6/159].
فالشورى بهذا خاصة بطائفة تملك الأهلية, ولا نظر لمن عداهم لأنهم كالهوام, وقد نص على ذلك صاحب كشف القناع وقد أعرضت عنه لأنك اعتقدت غيره فذهبت تستدل له بما يشبه الهذيان .
يقول في كشف القناع قبل نقلك : أَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ الْمُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ وَالرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ الْمُؤَدِّي إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ .انتهى
وهذا بدهي عقلًا كما هو ثابت شرعًا, وزعم وجود الخلاف مما يضحك الثكلى, فاختيار الصناع من السباكين والنجارين وأمثالهم لا يحسنه إلا من هو أهل للاختيار فكيف باختيار إمام المسلمين أن يجعل في كل أحد ويزعم بأنه حق لهم !!!قبح الله الديمقراطين فقد أعيوك أبا عمر حتى الهذيان .
يقول الأستاذ ابراهيم السكران : ” القول الراجح هو مشروعية مشاركة المرأة في الشورى والاختيار والبيعة …. مقام (الشورى والاختيار والبيعة) فإن عموماته محفوظة، فكلها جاءت النصوص فيها عامة بلفظ “المسلمين والناس”، ولم نجد الشارع خصص الشورى والاختيار والبيعة بالذكورة، فلذلك فإننا لا نقوى على القول بالتخصيص، ومن ادعى من أهل العلم أن المرأة ليس لها مدخل في الشورى والاختيار والبيعة فعليه الدليل، مع احترامنا وتوقيرنا لاجتهاده، وأنه قول معتبر، والخلاف فيها اجتهادي”.انتهى
أقول : تنبه أن الكثير ممن يقرأ لك يا أبا عمر , لا يفرّق بين المشروعية وبين الاستحقاق, وقد يعتقدون أنك تقصد أن عدم مشورتهن قادحة في استحقاق الولاية وما يترتب عليها, والحق أن غاية معنى المشروعية سقوط التأثيم عن من يستشرهن, أعني أن الخلاف واقع في جواز مشورتهن, فإن ترجحت المشروعية, سقط الأثم عمن استشارهن, ولا يعني ذلك وجوب أو لزوم استشارتهن, بل إن إطلاق المشروعية غير صحيح, فالشورى لا تكون إلا لمن كان مؤهلًا من رجل أو امرأة, والشرع المطهر قد حسم قوله في أهلية المرأة في باب الولاية على الرجال وما تفرع عنها, فلا يقال بالمشروعية المطلقة في مشاركة المرأة في الشورى, ومنها الاختيار والمقصود به الاختيار في تنصيب الإمام, فهذا لا مدخل للنساء فيه بالإجماع السكوتي للصحابة والصحابيات رضي الله عنهم أجمعين, أما الاستحقاق فمنفي بشكل قطعي, وأما مشروعية مشاركتهن في تنصيب الإمام فليسوا بأهل لذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : ” ما أفلح قوم ولى أمرهم امرأة ” ووصفتهن السنة بنقصان العقل والدين, وهذا النقص قادح في شروط أهل الاختيار كما لا يخفى على المستسلم المنقاد لشرع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وازواجه وسلم تسليمًا كثيرًا .
يقول الأستاذ ابراهيم السكران : ” والذي يظهر لي –والله تعالى أعلم- أن تحقيق القول في شورى التدبير هل هي معلمة أم ملزمة؟ أنها منوطة بالشروط الجعلية في الإمامة، لأن الإمامة عقد، وإعلام شورى التدبير وإلزامها مفوض للأمة، فإن اختارت الإمام وبايعته بيعة مطلقة ولم تقيد تصرفاته فالشورى معلمة لأنه اختيار الأمة، وإن قيدت تصرفاته فاشترطت عليه مثلاً أن يشاور الأمة، أو ممثليها، في قرارات الحرب والصلح وصفقات الاستيراد الكبرى ونحوها، فإن إمامته تتقيد بذلك، وتصبح الشورى هاهنا ملزمة، لأن عقد الإمامة تقيد بها، ولا يظهر لي أن الشارع حسم القول في الشورى هل هي ملزمة أم معلمة، بل وكل ذلك وفوضه لاختيار الأمة”.انتهى
أقول : قد قرر النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة نصها : (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط) ولذا منع الفقهاء من الشروط الجعلية ما كانت منافية لمقتضى العقد, وبذلك فإن كل شرطًا يضاد المقصود من الإمامة فهو باطل ولو كان مائة شرط, ومنصب الإمامة في الأصل مقصوده كما قال ابن خلدون رحمه الله “حَمْل الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ، فِي مَصَالِحِهِمُ الأْخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، فحَقِيقَتها خِلاَفَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا”,
فالمفروض أن القائم بهذا المنصب أعلى من الكافة أمرًا ونهيًا, فجعل شروطًا من الكافة على الإمام يناقض مقتضى الإمامة المفتقرة للسمع والطاعة من الرعية, وللجاه والسلطان المعين على القيام بمهامها, فإذا صح للرعية جعل شروطًا على الإمام انتقض المعنى والمقصود .
فليس للكافة إلا شرطًا في كتاب الله وهو أن يحكم الحاكم بشرع الله تعالى, فمتى التزم بذلك بطل كل شرط أخر كالتأقيت أو الإلزام بالشورى أو غير ذلك مما يناقض مقصود الإمامة ومعناها .
ثم ذكر الأستاذ ابراهيم السكران ما سماه الصيغ غير الشرعية للولاية :فذكر منها الاستبداد ودلل عليه بما في الصحيح أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (لكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصيبا)[البخاري:4240].
أقول : ليته بيّن الفرق بين الاستبداد المحرم وبين ما يظنه البعض استبدادًا وهو في الأصل خلافة راشدة, حتى أنهم يجعلون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من المستبدين, إلا أنهم يطلقون عليهما وأمثالهما مصطلح (المستبد العادل) فهو وإن كان عادلًا في حكمه إلا أنه قد استبد بالسلطة وظلم بعدم دخوله في بدعة تداول السلطة الديمقراطية الطاغوتية!!؟
واستدلال السكران فيه ما فيه ويعفو الله عنه, فكأنه يؤيد قول تلك النابتة ويستدل له بمقولة علي رضي الله عنه, وخاب ظن من قال ذلك, فإنه قد ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن عليًا قد بايع أبا بكر رضي الله عنه في أول الأمر, وإنما عنى بالاستبداد في ما ظنوه من أمر الميراث, ويؤكد ذلك قول أبي بكر في رده على علي رضي الله عنهما ونصه : ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ”. يقول القرطبي رحمه الله : ” وَقَدْ تَمَسَّك الرَّافِضَةُ بِتَأَخُّرِ عَلِيٍّ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْر إِلَى أَنْ مَاتَتْ فَاطِمَة ، وَهَذَيَانُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُور . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَدْفَع فِي حُجَّتِهمْ ، وَقَدْ صَحَّحَ اِبْن حِبَّانَ وَغَيْره مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْره أَنَّ عَلِيًّا بَايَعَ أَبَا بَكْر فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْلِم ” عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ لَمْ يُبَايِع عَلِيٌّ أَبَا بَكْر حَتَّى مَاتَتْ فَاطِمَة ، قَالَ : لَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِم ” فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يُسْنِدْهُ ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَوْصُولَةَ عَنْ أَبِي سَعِيد أَصَحّ ، وَجَمَعَ غَيْره بِأَنَّهُ بَايَعَهُ بَيْعَة ثَانِيَة مُؤَكِّدَة لِلْأُولَى لِإِزَالَةِ مَا كَانَ وَقَعَ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَل قَوْل الزُّهْرِيِّ لَمْ يُبَايِعهُ عَلِيٌّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام عَلَى إِرَادَة الْمُلَازَمَةِ لَهُ وَالْحُضُورِ عِنْدَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ فِي اِنْقِطَاع مِثْلِهِ عَنْ مِثْلِهِ مَا يُوهِمُ مَنْ لَا يَعْرِف بَاطِن الْأَمْر أَنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ الرِّضَا بِخِلَافَتِهِ فَأَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ أَظْهَر عَلِيٌّ الْمُبَايَعَةَ الَّتِي بَعْدَ مَوْتِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ”.انتهى عن فتح الباري (7/495) .
وقَالَ الْمَازَرِيُّ رحمه الله : ” الْعُذْرُ لِعَلِيٍّ فِي تَخَلُّفِهِ مَعَ مَا اعْتَذَرَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي بَيْعَةِ الْإِمَامِ أَنْ يَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ وَلَا يَلْزَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ بَلْ يَكْفِي الْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِأَنْ لَا يُخَالِفَهُ وَلَا يَشُقَّ الْعَصَا عَلَيْهِ وَهَذَا كَانَ حَالُ عَلِيٍّ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِلَّا التَّأَخُّرُ عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ ذَكَرْتُ سَبَبَ ذَلِكَ”.انتهى[فتح الباري (7/494)]
فحاشا أن تكون البيعة الشرعية وأعظمها بيعة الخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه وأرضاه بيعة مستبد, وحاشا عليًا أن يتهم أبا بكر رضي الله عنهما بالاستبداد ولكن الفتنة عظيمة عند القوم بمسألة الديمقراطية عافانا الله وإخواننا منها هكذا فتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولو سلمنا بهذا المظنون وأن عليًا رضي الله عنه عنى الاستبداد المحرم, فالعبرة بموقف باقي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فقد جاء في هذا الأثر ما نصه : ” وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ” أيْ كَانَ النَّاس يَحتَرِمُونَهُ إِكْرَامًا لِفَاطِمَة ، فَلَمَّا مَاتَتْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ الْحُضُورِ عِنْدَ أَبِي بَكْر قَصَرَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ الِاحْتِرَامِ لِإِرَادَةِ دُخُولِهِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ” لَمَّا جَاءَ وَبَايَعَ كَانَ النَّاس قَرِيبًا إِلَيْهِ حِين رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ ” وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْذِرُونَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ أَبِي بَكْر فِي مُدَّةِ حَيَاةِ فَاطِمَةَ لِشَغْلِهِ بِهَا وَتَمْرِيضِهَا وَتَسْلِيَتِهَا عَمَّا هِيَ فِيهِ مِنْ الْحُزْنِ عَلَى أَبِيهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا لَمَّا غَضِبَتْ مِنْ رَدِّ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهَا فِيمَا سَأَلَتْهُ مِنْ الْمِيرَاثِ رَأَى عَلِيٌّ أَنْ يُوَافِقَهَا فِي الِانْقِطَاعِ عَنْهُ”.انتهى [فتح الباري (7/494)].
فالاستبداد المحرم هو : ما كان من غير أهل للإمامة, كما تدل عليه سيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم كمعاوية وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم جميعًا, فكلهم لم يترك المنصب إلا بالوفاة أو القتل, ولا غضاضة في ذلك وفق المنهج الشرعي, وإن كان من الموبقات على المنهج الديمقراطي ولا كرامة له عند المؤمنين ولله الحمد .
ثم ذكر الأستاذ ابراهيم السكران نوعًا أخرًا سماه (الهرقلية) ويعني بها التوريث, والمستنكر حشره لصنيع معاوية رضي الله عنه في إسناده ولاية العهد لابنه يزيد, ضمن صيغة التوريث الهرقلية, وحاشا معاوية رضي الله عنه, أن يسن بالمسلمين سنة فارس والروم, فمعاوية لا يدانيه في العدل عمر بن عبد العزيز, فهو صحابي جليل وخال المؤمنين, وكاتب الوحي للرسول الأمين, وهو ممن وعدوا بالحسنى وزيادة في كتاب رب العالمين. أخرج الخلال في السنة (663) : بإسناده إلى محمد بن جعفر ، أن أبا الحارث حدثهم قال : وجهنا رقعة إلى أبي عبد الله (الإمام أحمد بن حنبل) : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ، ولا أقول إنه خال المؤمنين ، فإنه أخذها بالسيف غصبًا ؟ قال أبو عبد الله : هذا قول سوء رديء ، يجانبون هؤلاء القوم ، ولا يجالسون ، ونبين أمرهم للناس.
وأخرج أيضًا في السنة (671) : بإسناده إلى أبي هريرة المكتب حباب قال : كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : « فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : يا أبا محمد ، يعني في حلمه ؟ قال : لا والله ، ألا بل في عدله ».وعنه أيضًا في السنة (672,673,676) : بأسانيده عن كل من (قتادة ومجاهد وأبي إسحاق السبيعي) قولهم : « لو رأيتم معاوية لقلتم : هذا المهدي ».
وأهل العلم والفقه والدين من أهل السنة يعرفون الفرق بين الهرقلية وبين تولية معاوية لابنه يزيد, فالهرقلية أن تتم التولية لمجرد النسب, مع عدم الأهلية للمنصب, وأما إذا وجدت الأهلية للمنصب فلا تكون التولية حينئذ هرقلية على سنة فارس والروم, ولا يُسلّم لمن قاله في عصر معاوية رضي الله عنهم أجمعين, إن ثبت عنهم, لاختلاف الاجتهاد وما أُحيط بذاك العصر من خصومات, وهو خطأ لا يجوز المتابعة عليه كما تقرر عند أهل السنة في كتب العقائد, وخلاف شرذمة المفكرين لا يلتفت إليه إلا عند من جهل عقيدة السلف أو زاغ عنها من المفتونين,
نسأل الله العافية والسلامة والثبات عليها إلى يوم الدين .
يقول ابن خلدون رحمه الله : ” والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه ….. و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك، و حضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم – كلهم – أجلّ من ذلك، و عدالتهم مانعة منه” .انتهى [المقدمة لابن خلدون (ص210-211)] .
يقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ، حاشا لله لمعاوية من ذلك .انتهى [ص206 من المقدمة] .
ويعلم أهل الفقه في الدين خلا الجهال من المفكرين, طبيعة الحال آنذاك وخشية معاوية رضي الله عنه على أمر المسلمين, وخصوصًا مع وجود النفرة بين أهل الشام وأهل العراق, وغير ذلك من الأسباب التي أدت به إلى هذا الاختيار, لا كما تقوله الروايات الرافضية التي تظهر خيار الصحابة كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة في صورة أراذل الناس وحاشاهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين. فمن أصول أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بين الصحب الأفاضل, وترك الحكم لبعضهم على بعضهم إلى الحكيم الخبير, ومعرفة قدرهم واعتقاد أنهم بين الأجر والأجرين . ويجب أن يُعلم ويُفهم أن الذم ليست صفة لازمة للتوريث كما يظنه البعض, فالتوريث قد يكون هو الأصلح في أزمنة التغلب والملك العضوض, كما حصل في عهد عمر بن عبد العزيز وغيره رحمهم الله وممن بعده من الحكام العدول ومن جملتهم حكامنا من آل سعود سددهم الله وزادهم توفيقًا, والحكمة في ذلك أن الحكم لا يستتب إلا لطائفة يربطها روابط قوية لا تزعزعها الرياح العابرة ومن تلك الروابط الاتفاق في العقيدة ثم النسب, فهذه العوامل حولها تنشأ الشوكة والمنعة المطلوبة للحكم والولاية, فإذا حكمت هذه الطائفة بشرع الله تعالى بحسب طاقتها, فهذا مقصد شرعي يوافق الإرادة الإلهية الشرعية بلا أدنى شك عند العالمين بشرع الله تعالى, ولا يضره التغلب الأول ولا يقدح في شرعية الحكم المتأخر, لأن الجهة منفكة بين البداية والمآل, كما هو الحال في ملوك صدر الإسلام إلى الدولة السعودية أعزها الله بالتوحيد والسنة . ثم ذهب الأستاذ ابراهيم إلى عد التأمر من صيغ الولاية المذمومة !
وفيه نظر, فإن التأمر وصف يقع على التأمر بالغصب والرضا, فيكون المذموم هو الوصف المقيد بالغصب لا مطلق التأمر, فيكون ذكر التأمر من تكثير الكلام والتمسك بالألفاظ المشتركة وإسقاطها حسب الهوى كما ذكر ابن تيمية في ذمه لطرائق المخالفين للصواب.
وأخيرًا أفادنا الأستاذ ابراهيم السكران بمسألة السعة والإمكان, والاضطرار والعجز, والقدرة والاختيار, وهي مسألة جد نافعة, وقد بيّن جزاه الله خيرًا وجه الفتاوى السنية عن علماء العصر كالشيخ ابن سعدي وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته,
ولكن السؤال : لماذا لم يستعمل هذا المعيار الشرعي مع حكام المسلمين قبل فوز الاخوان المسلمين بكعكعة الخريف العربي ؟ كيف يؤذن للإخواني التصريح بالعلمانية, وتقاتل الأنظمة في الدول المسلمة بدعوى علمانيتها ؟
أحرام على بلابله الدوح *** حلال للطير من كل جنس ؟
كل دار أحق بالأهل إلا *** في خبيث من المذاهب رجس
ما علينا من ذلك, فباب التأويل الفاسد أوسع من مذهب الإخوان المسلمين نفسه, كيف لا وهو من إنشاء إبليس اللعين.
المهم أحب أن أوجه عناية الأستاذ ابراهيم السكران أن يصحو من سكرته وحسن ظنه بالحركيين وما يسمى بالإسلاميين, وأنهم ساعون إلى إقامة ما يمكن من الدين, فهذا سراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء فإذا جاء لم يجده شيئًا, وما عليه إلا أن يذهب في زيارة مخالطة لأعضاء هذه الجماعات في بلدان ما يسمى بالخريف العربي, ليطّلع على حقيقة الدين المراد إقامته من أولئك الناس, فلو أنهم سيقيموا الشرع المؤول, لقلنا يكفي ذلك في نصرتهم, لأن الشرع المؤول صاحبه بين الأجر والأجرين إن صلحت نيته واستفرغ وسعه وقام بما يستطيع.
ولكن أصحاب التفسير السياسي للإسلام, لن يقيموا إلا شرعًا محرفًا مبدلًا, يُكذب فيه على الله جل وعز وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسب إلى عباد الله الصالحين من السلف والخلف الخيرين. ومن المعلوم أن تبديل الشرع كفر مخرج من الملة, فمن نسب للدين شيئًا وهو يعلم أنه يكذب على الله وعلى شرعه فهذا مرتد خارج عن ملة الإسلام عند الله ولو كان يمشي على الأرض باسم المصلح العظيم وإمام المسلمين !!!
يقول الشيخ أبو نصر محمد الإمام القيم على دار الحديث بمعبر [تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات]: كانوا يقولون: سنقيم دولة الإسلام, ودندنوا بهذه الكلمة, ثم ما شعرنا إلا وعندهم شعار جديد, وهو {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}. فتنازلوا من إقامة دولة, إلى الإصلاح ما استطاعوا على حد زعمهم!. ولا شكّ أن المسلمين يصلحون ما استطاعوا.
وهذا الشعار الذي أبدوه أخيراً من جملة تنازلاتهم, ومفاده أنهم قد فشلوا في إيهام الناس حول إقامة دولة الإسلام, وما داموا على سلم التنازلات فنخشى أن يضيعوا أكثر فأكثر, لأن الانحرافات تبدأ شيئاً فشيئًا, وصدق الله إذ يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر}
فانظر إلى نهاية الذي يريد الإصلاح ما استطاع, إذا به يأمر بمخالفة الشرع باسم المصلحة, والتنازل عن شيء من الحق, سبب لإنزال العذاب الإلهي عاجلاً وآجلاً. قال الله سبحانه وتعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا} إذاً فما قيمة التنازلات؟ وما مدى الانتفاع بها, إذا كان هذا المتنازل سيذوق من الله سوء العذاب في الدنيا والآخرة؟ {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}, {ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون}.
فالكفار هنا لا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك دينه, لأنهم قد علموا أنه لا يترك دينه, لكنهم يطالبونه بالتنازل, ولو في بعض الحقّ, فربنا يمتنّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بما منحه من الخير والفهم الصحيح والثبات والعصمة عند مواجهة المشركين.
وأفادت الآية أن اكتساب أصحاب الزعامات والسلطات, ليكونوا في صف الدعوة على حساب الدعوة إلى الله؛ لا يجوز, لأن التنازل عن شيء من هذا الدين, باسم تحقيق مصلحة الدعوة؛ لا يجوز, والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم {وأن احكم بينهم بما أنزل الله واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} خاب وخسر من ظن أنه سيعيش سالماً, ويتنازل عن شيءٍ من الإسلام, وهو في مقام الدعاة والعلماء والقدوة الحسنة.. وإلى الله المشتكى. انتهى
فلزامًا على الأستاذ ابراهيم السكران أن يراجع ورقته هذه وما فيها من بواطيل لا تخفى على طلبة العلم وأهله, وغاية ما سوف يؤول أمرها إلى أن تكون إمامًا لأهل الباطل وأصحاب الشبهات, فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين الحق سوى إدراكه .
وظننا حسن بالأستاذ أن يكون من أصحاب القلب الرقيق اللين, ويكون قبوله للحق سهلًا يسيرًا لا صعبًا عسيرًا , ولن يكون كذلك إذا لم يكن زكيًا صافيًا سليمًا ليزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا بخلاف ما في هذه المقالة .
والله تعالى أعلم, فما كان من حق فمن الله وما كان من باطل فمني ومن الشيطان أخزاه الله .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .
وكتبه/ علي بن عمر النهدي
7 محرم 1433 للهجرة