الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لهُ، وَمَن يُضلِلْ فَلَا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ صَومٍ وقيامٍ وقراءةٍ للقرآنِ، وصدقةٍ وإحسانٍ، فهُوَ مدرسةٌ أيَّمَا مدرسةٍ، والمُوَفَّقُ مَنْ استفادَ مِن هذهِ المدرسةِ في عمومِ السنةِ، بَلْ في عمومِ حياتِهِ، ومِن فوائِدِ هذهِ المدرسةِ مَا يَلي:
الأمرُ الأولُ: عَدَمُ قَطعِ الصِّيامِ، إنَّ الصِّيامَ عِبادَةٌ عظيمةٌ، وفي الجنَّةِ بابٌ خاصٌّ يُسمَّى بابَ الرَّيانِ، لا يدخُلُهُ إلَّا الصائمونَ، فَلَا أقَلَّ مِن أنْ يصومَ المسلمُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كُلِّ شهرٍ، فإنَّهُ يُعادِلُ صِيامَ السَّنَةِ، عَن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو بنِ العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وإنَّ بحسْبِكَ أنْ تصومَ كُلَّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ لكَ بكُلِّ حسَنَةٍ عشرَ أمثالِهَا، فإنَّ ذلكَ صيامُ الدَّهرِ كُلِّهِ … » الحديثُ. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
ومِن الصيامِ المستحبِّ صيامُ سِتَّةِ أيَّامٍ مِن شوالٍ، فهوَ مَعَ رمضانَ كأجرِ صيامِ سنةٍ كاملةٍ، رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ صَامَ رمضانَ ثُمَّ أتبعَهُ سِتًّا مِن شوالَ كانَ كصِيامِ الدَّهْرِ ».
فَلَا تَفوتنَّكَ هذهِ السُّنةُ، وبادِرْ فإنَّ البِدَارَ بِها أرجَى لفِعْلِها، لاسِيَّمَا وَلَا زالَتْ النُّفوسُ مُعْتَادَةً على الصِّيامِ.
الأمرُ الثاني: القيامُ، فَقَدْ اعتادَ المسلمونَ قيامَ رمضانَ في صلاةِ التراويحِ، فليَستَفِدْ مِن هذا الموفَّقُ وليُداوِمْ على القيامِ، فإنَّهُ صفةُ المُتعبِّدينَ، وطريقةُ السائرينَ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64].
فَلَا تَتْرُكْ القيامَ وَلَو أنْ تُصلِّيَ قبلَ النومِ رَكَعَاتٍ ثم تُوتِرُ، أو تُصلِّيَ بعدَ راتبةِ العشاءِ ركعاتٍ ثُمَّ تُوتِرَ، رَوَى مسلمٌ وغيرُهُ عن جابرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَن خافَ ألَّا يقومَ مِن آخرِ الليلِ فَليوتِرْ أوَّلَهُ، وَمَن طَمِعَ أنْ يقومَ آخرِهُ فليوتِرْ آخرَ الليلِ، فإنَّ صلاةَ آخرِ الليلِ مشهودةٌ، وذلكَ أفضلُ ».
الأمرُ الثالثُ: قراءَةُ القرآنِ، إنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ القرآنِ، قالَ تعالَى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] وإنَّ الاستمرارَ في قراءةِ القرآنِ عبادةٌ عظيمةٌ كثيرةُ الأجرِ والحسناتِ، رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي أمامةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «اقرَءَوا القرآنَ فإنَّهُ يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِهِ ».
وَرَوَى سعيدُ بنُ منصورٍ عن ابنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنهُ قالَ: ” الحرفُ في كتابِ اللهِ بحسنةٍ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ ألم حرفٌ، ولكن (ألفٌ) حرفٌ، و(لامٌ) حرفٌ، و(ميمٌ) حرفٌ “.
ويَزيدُ أجرُ القرآنِ عندَ تدبُّرِهِ، قالَ تعالَى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24] فاجعَلْ لَكَ في كُلِّ شهرٍ ختمةً أو ختمتينِ أو أكثَرَ، فَلَا أقلَّ مِن أنْ تقرَأَ كُلَّ يومٍ جزءً مِن القرآنِ.
الأمرُ الرابعُ: مُلازَمَةُ المساجدِ، إنَّ مُلازَمَةَ المساجدِ عِبادَةٌ عظيمةٌ وقُرْبَةٌ جَليلَةٌ، وقد عوَّدَنا رمضانُ طولَ المُكْثِ في المسجدِ للاعتكافِ أو لِقراءةِ القرآنِ، فَلْنَسْتَفِدْ مِن ذلكَ في طولِ المُكثِ بعدَ صلاةِ الفريضةِ بالإتيانِ بالأذكارِ عَقِبَ الصلاةِ وبالدُّعاءِ -دونَ رَفعِ اليدينِ- فإنَّ المُكثَ في المُصلَّى بعد صلاةِ الفريضةِ سببٌ لِدعاءِ الملائكةِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ».
قالَ ابنُ بطَّالٍ -رحمه الله تعالى-: ” فمَنْ كانَ كثيرَ الذنوبِ وأرادَ أنْ يُحِطَّهَا اللهُ عنهُ بغيرِ تَعَبٍ فَلْيَغْتَنِمْ مُلازَمَةَ مكانِ مُصَلَّاهُ بعدَ الصلاةِ لِيَسْتَكْثِرْ مِن دعاءِ الملائكةِ واستغفارِهِمْ لَهُ “.
ومِن ذلكَ الجلوسُ في المسجدِ مِن بعدِ صلاةِ الفجرِ إلى أنْ ترتَفِعَ الشمسُ، لِمَا رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا.
ومِن مُلازَمَةِ المساجِدِ الرِّباطُ، وذلكَ أنْ يُرابِطَ في المسجدِ بينَ الفُرُوضِ، فإذا صلَّى فَرْضًا نَوَى البقاءَ والمُكْثَ في المسجدِ إلى الفَرْضِ الذي يليهِ، كالذي يُصلِّي المغربَ ويبقَى في المسجدِ إلى العِشاءِ بِنيَّةِ الرِّباطِ، روَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ».
الأمرُ الخامِسُ: الصَّدَقَةُ، عَوَّدَنا شهرُ الخيرِ والبرَكَةِ شهرُ رمضانَ الصدقةَ، فَلْنَجتَهِدْ على الصدقةِ كُلَّ يومٍ وَلَوْ قليلًا، فإنَّها مِن الأعمالِ اليوميَّةِ الجَليلةِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ».
والصدقةُ مُضاعَفةُ الأجرِ، قالَ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261] بَلْ ومَخْلُوفةٌ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].
اللهُمَّ وَفِّقنا للطَّاعاتِ، واستعمِلْنَا في مَرَاضيكَ، وَجَنِّبنا مَا يُسْخِطُكَ يا رَبَّ العالمينَ.
أقولُ مَا تسمعونَ، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفروهُ، إنَّهُ هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِن رحمةِ اللهِ أنَّ الحسنةَ تدعو أُختَهَا، كَمَا أنَّ السيئةَ تدعو أُختَهَا، قالَ تعالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ قالَ عروةُ بنُ الزبيرِ وغيرُهُ مِن السلفِ: الحسنةُ تدعو أُختَهَا، والسيئةُ تدعو أُختَهَا.
فَمَن وُفِّقَ للطاعاتِ وعبادةِ اللهِ فليُتبِعْهَا بمِثْلِها وليستمِرْ على ذلكَ، فإنَّ مِن علامةِ التوفيقِ والقَبولِ أنْ يستمرَّ العبدُ مُقبِلًا على اللهِ تعبُّدًا وتقرُّبًا لينجوَ مِن نارٍ تلظَّى لا يصلاهَا إلَّا الأشقَى.
فاللهَ اللهَ بالبِدارِ البدارِ، وأخذِ النفسِ بالحزمِ والعزمِ للنجاةِ مِن النارِ والفوزِ بالجنانِ، فَمَنْ تعوَّدَ الطاعةَ اعتادَها وهانَتْ عليهِ، روَى ابنُ أبي شيبة عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” تَعَوَّدُوا الْخَيْرَ فَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِي الْعَادَةِ “.
واحْذَروا الغفلةَ غايةَ الحذَرِ، فَكَمْ فَوَّتَتْ مِن خيرٍ وضَيَّعَتْ مِن غنيمَةٍ، قالَ تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205].
واحْذَروا الكَسَلَ فهو مِن أسبابِ التأخُّرِ، بَلْ والهلاكِ؛ لِذا استعاذَ مِنهُ النبيُّ ﷺ كما روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسٍ -رضي الله عنه- أنه قالَ: ” كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ “.
وعَلَيْكُم بالحِرْصِ على ما ينفعُكُمْ في آخِرَتِكُم، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ ».
وتذكَّروا الموتَ وبَغْتَتَهُ، وتذكَّروا الموتَ وحرارَتَهُ، وتذكَّروا الموتَ وانقِطاعَ الأعمالِ، وتبدُّدَ الأماني، قالَ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185] وقالَ سبحانهُ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
اللهُمَّ وفِّقنا للطَّاعاتِ، اللهُمَّ سَدِّدْنَا وأعِنَّا، اللهُمَّ اجْعَلنا مِمَّنْ يُداوِمُ على عبادَتِكَ والسَّعيَ في مراضِيكَ.
مدرسة رمضان يا طلاب الجنان