من أحكام الشتاء


الخطبة الأولى:

فإنَّ للشتاءِ أحكامًا شرعيَّةً، وسُنَنًا نبويَّةً، وآدابًا مرعيَّةً، ينبغي لأهلِ الإيمانِ والتَّقوى أن يُراعوها ويقوموا بحقِّها، وأُذكِّرُ ببعضِها:

الأمرُ الأولُ: إنَّ تقلُّبَ الزمانِ إلى ليلٍ ونهارٍ وحَرٍّ وبردٍ مِن آياتِ اللهِ، قالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].

ولا يعقِلُ هذهِ الآياتِ إلا أُلوا الألبابِ، إلا أُولوا العقولِ، فينبغي أن نأخُذَ العِبرةَ مِن تقلُّبِ الحالِ وتغيُّرِها، كُنَّا قبلَ أشهرٍ لا نصبِرُ على بقاءٍ تحتَ شمسٍ، واليومَ نبحثُ عنها بحثًا، فهذا التقلُّبُ والتغيُّرُ عِبرةٌ وآيةٌ لأولي الألبابِ، ليعلموا قُدرةَ الغلَّابِ سبحانهُ.

وفي ذلكَ حِكَمٌ، ومِن ذلكَ ما ذكرهُ المُختصُّونَ أنَّ فيهِ نفعًا للأبدانِ، فإنَّ الأبدانَ تنتفعُ بتقلُّبِ الحالِ ما بينَ بردٍ وحَرٍّ.

الأمر الثاني: إسباغُ الوضوءِ في البردِ الشديدِ، إنَّ مِن الأعمالِ الصالحةِ والعباداتِ الفالِحَةِ أن يُتعبَّدَ للهِ بإسباغِ الوضوءِ في هذا البردِ الشديدِ، فإنَّ فيهِ رفعَ الدَّرجَاتِ وتكفيرَ السيئاتِ.

أخرجَ الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ».

وثبتَ عند الترمذيِّ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنهما-، ذكرَ حديثًا فيهِ قِصَّةٌ، وفيهِ أنَّ اللهَ سألَ النبيَّ ﷺ فيما يختصِمُ الملأُ الأعلى، -أتدرونَ مَن الملأُ الأعلى؟ إنهم الملائكةُ المُقرَّبونَ، ففيمَ يغتبِطونَ ابنَ آدم، وفيمَ يتنافسونَ في رفعهِ ونقلِهِ، إنهُ ما سيأتي ذِكرُهُ-، قال النبيُّ ﷺ: «الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَالْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

فهذا الحديثُ مُتضمِّنٌ لفضلٍ عظيمٍ في إسباغِ الوضوءِ على المكارِهِ.

وأُنبِّهُ إلى أمرينِ:

الأمرُ الأولُ: لا يُستحبُّ تقصُّدُ الماءِ البارِدِ لمَن عندهُ ماءٌ حارٌّ، فمَن تقصَّدَهُ لأجلِ المشقَّةِ فقد خالَفَ الشريعةَ، وإنما المرادُ مَن اضطرَّ أن يتوضأ أو يغتسِلَ بماءٍ باردٍ.

الأمرُ الثاني: إنهُ يحصُلُ مِن بعضِ الناسِ تفريطٌ في حالِ وضوءٍ أو اغتسالٍ بماءٍ باردٍ، فلا يُعمِّمُ أعضاءَ الوُضوءِ أو الغُسلِ، ومَن فعلَ ذلكَ لم تصِح طهارتُهُ ومِن ثمَّ لَمْ تَصِحَّ صلاتُهُ.

الأمرُ الثالثُ: قيامُ الليلِ، قَدْ جاءَ في حديثٍ ضعيفٍ أنَّ الشتاءَ ربيعُ المؤمنِ، طالَ ليلُهُ فقامَهُ وقَصُرَ نهارُهُ فصامَهُ. فقيامُ الليلِ فُرصةٌ للمتعبِّدينَ في الشتاءِ؛ لأنهم يأخذونَ راحتَهُم مِن النومِ فيفزعونَ نشطينَ مُقبلينَ على مُناجاةِ ربِّهِم ربِّ العالمينَ.

وقَدْ ثبتَ عِندَ الطبرانيِّ في (الكبير) عَن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” رَجُلَانِ يَضْحَكُ اللهُ إِلَيْهِمَا: -وفيه قوله- وَرَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَحَمِدَ اللهَ، وَاسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ فَيَضْحَكُ اللهُ إِلَيْهِ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي لَا يَرَاهُ أَحَدٌ غَيْرِي “.

يا لله! يضحَكُ اللهُ! أتدرونَ مَن الذي يضحَكُ؟ إنهُ اللهُ، وهو علامةٌ على رِضاهُ غايةَ الرِّضى مِن فعلِ هذا العبدِ الذي قامَ في هذهِ الليلةِ تارِكًا راحَتَهُ ومُقبِلًا على ربِّهِ، فالشِّتاءُ غنيمةٌ للمؤمنِ أنْ يقومَ ليلَهُ.

الأمرُ الرابعُ: الصيامُ، إنَّ الصيامَ عبادةٌ عظيمةٌ، ثبتَ في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ» أي: وِقايةٌ وسِتْرٌ مِن النارِ، ثم قالَ ﷺ: «… وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ».

وقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، هذا الحديثُ تضمَّنَ فضائِلَ عظيمةً للصيامِ، وفي حالِ الشِّتاءِ يكونُ الصيامُ غنيمةً للمؤمنِ لأنَّ نهارَهُ قَدْ قَصُرَ، فلا عطشَ ولا تعبَ ولا جهدَ، فهوَ فُرصةٌ للإقبالِ على اللهِ بالصيامِ.

قالَ أبو هريرةَ -رضي الله عنه-: “ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ؟ ” قَالَ: قُلْنَا وَمَا ذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: “ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ “. وصدَقَ -رضي الله عنه-، فإنَّ مَن صامَ في الشتاءِ فازَ بفضيلةِ الصيامِ المذكورةِ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ.

فاحرِصوا عبادَ اللهِ على صومِ الاثنينِ والخميسِ وأيَّامِ البيضِ، احرِصوا على إكثارِ الصيامِ ولا أقلَّ مِن أن يصومَ العبدُ ثلاثةَ أيامٍ مِن كُلِّ شهرٍ، ثبتَ في الصحيحينِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاصِ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ».

الأمرُ الخامسُ: يكثُرُ في بلادِنا الأمطارُ في حالِ الشتاءِ، فينبغي أن يُعلمَ أنهُ يجوزُ في حالِ المطرِ الشديدِ أن يُجمَعَ بينَ الصلاةِ، سواءٌ كانتْ صلاةُ الظهرِ والعصرِ أو صلاةَ المغربِ والعشاءِ، ثبتَ في الصحيحينِ عَن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ أنهُ قالَ: ” صلى رَسُولُ اللهِ ﷺ سبعَا وثمانيًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ “، وقالَ أيوبُ السِّختيانيِّ: “فِي المطَرِ“، وذكرَ مِثلَهُ الإمامُ مالكٌ -رحمه اللهُ-.

فلِذا يصِحُّ الجمعُ في المطرِ، لكن قيَّدَهُ أهلُ العلمِ بالمطَرِ الشَّاقِّ -الذي يَبُلُّ الثيابُ- فإذا كانَ المطرُ شديدًا يَبُلُّ الثيابَ فإنهُ يصِحُّ الجمعُ.

ومِن الأخطاءِ أنَّ بعضَ الناسِ يتساهلونَ، فما إنْ يرَوا مطرًا نازِلًا إلا وفزَعوا للصلاةِ جمعًا، وهذا خطأٌ، فليسَ أيُّ مطرٍ يُجمَعُ لهُ، وإنما المطرُ الذي بهِ مَشَقَّةٌ وهو الذي يَبُلُّ الثيابَ.

الأمرُ السادسُ: يكثُرُ في حالِ الشتاءِ لُبسُ الجواربِ والخُفَّينِ، وقد تعلَّقَ بالجواربِ والخُفَّينِ مسائلُ وأحكامٌ، ومِن ذلكَ أنَّ المُقيمَ يمسحُ يومًا وليلةً، وأنَّ المسافِرَ يمسحُ ثلاثةَ أيامٍ ولياليهُنَّ.

ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنه قالَ: ” جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ“، -يعني في المسحِ على الخفينِ-.

فللمُقيمِ أن يمسحَ أربعًا وعشرينَ ساعةً، وللمُسافِرِ أنْ يمسحَ اثنَتينِ وسبعينَ ساعةً، تبتدِئُ المُدَّةُ مِن أوَّلِ مسحَةٍ بعدَ حَدَثٍ، فلو قُدِّرَ أنَّ رجلًا توضَّأَ ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ توضَّأَ تجديدًا لوُضوئِهِ فمسَحَ، فلا تبتدئُ المُدَّةُ وإنَّمَا تبتدئُ المُدَّةُ مِن أوَّلِ مَسحٍ بعدَ حدَثٍ، فإذا مَسَحَ بعدَ حَدَثٍ فلَهُ أنْ يَمْسَحَ بمِقْدَارِ يومٍ وليلةٍ.

فلَوْ قُدِّرَ أنهُ قبلَ اكتِمَالِ يومٍ وليلةٍ -أي قبلَ مُضِيِّ أربعٍ وعشرينَ ساعةً مَسَحَ ولَمْ يُحدِثَ، فتَمَّتْ أربعٌ وعشرونَ ساعةً فإنهُ يبقى طاهِرًا ويُصلِّي ما شاءَ اللهُ، لكنَّهُ بعدَ تجاوُزِ أربعٍ وعشرينَ ساعةً ليسَ لهُ أن يمسحَ على خُفِّهِ، فإذا أحدَثَ فإنهُ يَنْزِعُ خُفَّهُ ثُمَّ يتوضَّأُ ويغسِلُ رِجْلَيْهِ.

ومِمَّا ينبغي أنْ يُعلمَ أنهُ لا يصِحُّ المسحُ على الخُفِّ الرَّقيقِ، وعلى على الجورَبِ الرَّقيقِ الذي يُرَى ما وراءَهُ لرِقَّتِهِ، وقد أجمعَ العلماءُ على ذلكَ، حكى الإجماعَ المنصوريُّ والكاسانيُّ، وعلى هذا علماءُ وأئمةُ المذاهبِ الأربعةِ، بخلافِ الخُفِّ المُخرَّقِ أو الجورَبِ المُخرَّقِ فإنهُ يصِحُّ المسحُ عليهِ، قالَ سفيانُ الثوريُّ: “ وَهَلْ كَانَتْ خِفَافُ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ إِلَّا مُخَرَّقَةً؟ “.

الأمرُ السابِعُ: مَن لَمْ يستَطِعْ الوُضُوءَ أو الاغتسالِ لشِدَّةِ بردٍ ويخافُ على نفسِهِ إذا توضَّأَ أو اغتَسَلَ الموتَ أو المرضَ، فإنهُ يُشرَعُ لهُ التَّيَمُّمُ، حكى الإمامُ سفيانُ الثوريُّ أنَّ مَن خشيَ على نفسِهِ موتًا فإنَّ لهُ أن يتيمَّمَ إجماعًا، فهذا داخلٌ في قولِهِ تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: 43] فمَن لم يستطِعْ استعمالَ الماءِ لمَرَضٍ أو زيادةِ مرَضٍ أو خشيةِ موتٍ أو غيرِ ذلكَ فإنَّ لهُ أن يتيمَّمَ.

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، اجعلنا لك عابدينَ في كُلِّ حينٍ، في بردٍ وحَرٍّ وشتاءٍ وصيفٍ، اللهُمَّ اجعلنا مِن المُسابقينَ في الطاعاتِ، والمُسارعينَ في فعلِ الخيراتِ، والصائمينَ لنهارِ الشتاءِ البارِدِ، والقائمينَ لليلهِ الطويلِ، وتقبَّل مِنَّا يا أرحمَ الراحمينَ.

أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فإتمامًا لما تقدَّمَ:

الأمرُ الثامِنُ: إنَّ اللهَ أنعمَ علينا بنِعَمٍ عظيمةٍ، بلِباسٍ دافِئٍ وطعامٍ مُشبِعٍ وأمنٍ عامٍّ، يأمَنُ فيهِ الرجلُ على نفسِهِ وَوَلَدِهِ وزوجِهِ ومالِهِ، إلى غيرِ ذلكَ مِن النِّعَمِ.

وهذهِ مِن النِّعَمِ العظيمةِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: 5] فهذِهِ نعمةٌ عظيمةٌ وهيَ أن نتدفَّأَ باللباسِ الذي يُدفِّئُ أبدانَنَا ويُبعِدُ أذَى البردِ عَنَّا، فاحمَدُوا اللهَ على هذهِ النِّعَمِ العظيمةِ، فإنَّ لكُم إخوانًا قريبينَ مِنكُم، يعيشونَ فَقرًا وجوعًا وشِدَّةَ بردٍ، فلا لِباسَ يطرُدُ البردَ، ولا طعامَ يُقوِّي الأبدانَ، ولا أمنَ يُريحُ الأنفُسَ، إنهُم إخوانُنا قريبونَ مِن دولَتِنا، ليسَ بيننا وبينَهُم الكثيرُ.

فاتَّقوا اللهَ إخواني، واعرِفوا قدرَ هذهِ النعمةِ، واعلموا أنَّ ثباتَ النِّعَمِ بالشُّكرِ، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] فاشكُرُوا اللهَ على هذهِ النِّعَمِ، قوموا بطاعةِ اللهِ، واحذروا معاصي اللهِ، روى الإمامُ البخاريُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ “.

ورَوَى البيهقيُّ في شُعَبِهِ عن بلالِ بنِ سعدٍ -رحمه الله تعالى- أنهُ قالَ: “ لَا تَنْظُرُ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ “، لا إلهَ إلا اللهُ! صدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ وَرَضِيَ عنهُ- فإنَّ المؤمنَ يخشى الأوزارَ، فإنَّ المؤمنُ وَجِلٌ خائفٌ مِن ربِّهِ لمعاصيهِ وذنوبِهِ.

أخرجَ البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ “.

فَرَاجِعُوا أنفُسَكُم -إخوةَ الإيمانِ-، وتفقَّدُوا أحوالَكُم في هذهِ الصلاةِ، وما أدراكَ ما الصلاةُ، عمودُ الدِّينِ، والرُّكْنُ الثاني مِن الإسلامِ، فمِن المسلمينَ مَن لا يُواظِبُ على الصلواتِ الخمسِ، ومِن المسلمينَ مَن أغفَلَ صلاةَ الفجرِ فلا يُصلِّيها، ومِن المسلمينَ مَن ترَكَ الصلواتِ الخمسَ كُلَّها في المساجِدِ، ومِن المسلمينِ مَن لا يُصلي حتَّى في بيتِهِ، وهذا كفرٌ ورِدَّةٌ -عافاني اللهُ وإيَّاكُم-.

روَى الإمامُ مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ»، وقَدْ ذكرَ شيخُنا العلامةُ عبدُ العزيزِ بنِ بازٍ -رحمه الله تعالى- أنَّ مَن تعمَّدَ وضعَ المُنبِّهَ على الساعةِ السابعةِ ليقومَ لعملِهِ، ثُمَّ يُصلي فيتَّجِه إلى عَمَلِهِ أنَّ هذا كافرٌ!

أتدرونَ ما معنى كافرٌ؟ أي أنهُ مُرتَدٌّ قَدْ حَبِطَتْ أعمالُهُ، فلا يُصلَّى عليهِ ولا يُغسَّلُ ولا يُكفَّنُ ولا يُدفَنُ في مقابرِ المسلمينَ، وَلَا يُترحَّمُ عليهِ، وبقاؤُهُ معَ زوجَتِهِ غيرُ شرعيٍّ، وأولادُهُ غيرُ شرعيينَ، إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا يترتَّبُ على تركِ الصلاةِ.

اتَّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ، واعلموا ما أنتُم فيهِ مِن النَّعِيمِ، وبادِروا إلى التوبةِ، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [التحريم: 8].

فاتَّقوا اللهَ وبادِروا إلى التوبةِ، اتَّقوا اللهَ وبادِروا إلى الأوبَةِ، إنَّ الأمرَ خطيرٌ غايةَ الخطورةِ.

الأمرُ التاسِعُ: تذكَّرْ وأنتَ تعيشُ هذا البردَ أنه نَفَسٌ مِن نارِ جهنَّمَ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ».

ففي النارِ زَمْهَريرٌ، بردٌ شديدٌ، وقعرٌ بعيدٌ فيُقلِّبُ اللهُ أهلَ النارِ في عذابٍ أليمٍ، ما بينَ حَرٍّ شديدٍ، ما بينَ نارٍ تلظَّى لا يصلاها إلا الأشقى، نارٍ قَعرُهَا بعيدٌ، شديدةُ الظُّلمةِ والحرارةِ إلى بردِ زمهريرٍ البردِ الشديدِ.

فالأمرُ عظيمٌ -إخوةَ الإيمانِ-، الأمر عظيمٌ -أيها المسلمونَ-، فاتَّقوا هذهِ النارَ وفِرُّوا مِنها بطاعةِ اللهِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

اللهُمَّ إنا نعوذُ بِكَ مِن النارِ، اللهُمَّ إنا نعوذُ بِكَ مِن جهنَّمَ، اللهُمَّ إنا نعوذُ بِكَ مِن سَخَطِكَ وأليمِ عِقابِكَ وعذابِكَ، ونسألُكَ برحمَتِكَ أن تُعامِلَنَا بفَضْلِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب
مترجمة إلى الإنجليزي
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
1