من كفالة عمه


الخطبة الأولى:

 

الحمد لله والى عباده بالنعم ، وأخرجهم بدعوة خليله محمد من الظلم ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له أحيى بها من الرمم، وأقام بها ميزان العدل عالي القمم.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام العرب والعجم ، وقدوة الناس أجمعين:

صلَّى إلهُ الحقِّ في ملكوته *** والصالحون عليه والأبرارُ

وصلى الله على آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)

أمة الإسلام : سبق لنا في سيرة نبينا محمد أن الله أراد له أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الحضن الرؤوف والساعد الحامي ، وأن ولاية كفالته

كانت لجده عبدالمطلب .

ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى ابنه أبا طالب شقيق عبدالله بكفالة النبي وحياطته، وكانت سن النبي ثماني سنين ، ولم يكن أبو طالب بأكبر بني عبد المطلب، ولا بأكثرهم مالا، ولكنه كان أشرف قريش وأعظمها مكانة، وأكرمها نفسا، وقد أحب أبو طالب ابن أخيه محمدا حبا شديدا، لا يحبه أحدا من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شبعوا، فكان إذا أراد أن يؤكلهم قال: كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي النبي فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، فيعجب أبو طالب ويقول: إنك لمبارك.

كان الصبيان يصبحون رمصا شعثا ، ويصبح محمد دهينا

كحيلا. وقد زاده حبا في نفسه ما كان يتحلّى به النبي في صباه من طيب الشمائل، وكريم الاداب في هيئة الأكل، والشرب، والجلوس، والكلام، مما يعز وجوده في هذه السن بين الصبيان، ويدل على أن الله سبحانه فطره من صغره على خير الخلال والاداب.

كان أبو طالب مُقلاًّ في الرزق لا مال له فعمل النبي صلى الله عليه وسلم برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ( ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم ) فقال: أصحابه: وأنت؟ قال:( نعم, كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) وقد ذكر العلماء في الحكمة في رعي الغنم قبل النبوة ما يَحْصُلُ لَهُمُ من التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى ما يَكْفُلُونَهُ مِنَ القِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ ، مما يستوجب لَهُمْ الحِلْمَ والشَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي المَرْعَى، وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ، ودَفع عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا، وشدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى المُعَاهَدَةِ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الأُمَّةِ، وعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا .

عباد الله : صان الله نبيه ﷺ عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام, روى أحمد أنه ﷺ قال لخديجة:( أي خديجة، والله لا أعبد اللات والعزى أبدًا ) وكان لا يأكل ما ذبح على النصب، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل .

وقد حفظه الله تعالى في شبابه من نزعات الشباب ودواعيه ، فهو بشر يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميول الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، وكان يخالط الشباب ويعيش بينهم ، ويسمع بمغامراتهم في ارتياد كهوف البغاء ، وحوانيت الخمارات ، لكنه كان يرتفع عما يسيء إلى اسمه ورجولته ، ولو كان ذلك مما لا تحرّمه أعراف قريش ، ولكنها لا تلائم وقار الهداة وجلال المرشدين ، عصمه الله عن جميع مظاهر الانحراف روى ابن حبان وحسنه ابن حجر [ضعفه ابن كثير والألباني] أنه ﷺ:( ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إليَّ غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، فيلهو حتى تغلبه عيناه ، قال فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا، ثلاث ليال وكلها يرجع دون عمل السوء ، ثم قال ﷺ:( فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته ) إن هموم العمل وطلب الكسب بالرعي الذي تشققت به قدماه من صخور الجبال وأدمتها أشواك الصحاري ، فأمسى مكدود البال منهك القوى يبحث عن ساعة يتنفس فيها بهجة ومرحًا ، فلما مر بذلك الزفاف ادركه حفظ الله له عن مقارفة السوء بأن غلبه النوم .

فكم هم أولئك الناس الذين تعلوهم الغرائز ، وتلوي أعناقهم الشهوات ،فيجهدون في الحصول عليها دون أن يوقفهم نداء ناصح ، أو زجر زاجر ، يبذلون الأموال كالخطوات ،حتى يظفروا بسويعات يغضبوا فيها الجبار .

كانت رعاية العم لابن أخيه وكأنه من صلبه ، مما أنساه

وحدته ويتمه بمعاملة ، فكان يلازمه في مكة في مجالسها وطرقاتها ، وكان رفيقه في بعض الرحلات ، وكانت رحلات قريش الشتوية تقصد اليمن ، والصيفية تتجه نحو الشام ، فكان من ذلك ما رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصححه ابن حجر والألباني عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ -يَعْنِي بَحِيرَا – هَبَطُوا ، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، ولا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟

قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ ، لَمْ تَبْقَ شَجَرٌ وَلَا

حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولَا يَسْجُدَانِ إلَّا لِنَبِيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ

بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أتَاهُمْ بِهِ، وكَانَ هُوَ -أَي الرَّسُولُ ﷺ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ -أيْ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَقْبَلَ ﷺ وعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ، وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فقَالَ بَحِيرَا: انْظُرُوا إِلَي فَيْءَ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم عَلَيْهِمْ، وهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟

قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ في هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيق إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وإنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، فَبُعِثْنَا

إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا .

ثم قَالَ الرَّاهِبُ بَحِيرَا لوفد ابي طالب: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيكُّمْ وَليُّهُ؟

قال أَبُو طَالِبٍ: فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ )

أقول ما سمعتم …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله …

بعد بلوغه الخامسة عشر وإلى قريب العشرين ذكر أهل السير أنه شهد حَرْبُ الفِجَارِ، على وزن قِتَال، سُمِّيت بذلك لِوُقُوعِهَا في الأشهرِ الحُرُمِ التي حرم اللَّه فيها القتال ، وكانت هَاجَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وأحلافها، وقَيْسٍ عيلان وأحلافها وكَانَ يَنْبُلُ عَلَى عُمُومَتِهِ: أيْ يُجَهِّزُ لَهُمُ النَّبْلَ لِلرَّمْي، وقِيلَ يَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ )

وقبيل العشرين عاما شهد حلف الفضول قَالَ الحافظ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ حِلْفُ الفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمعَ بِهِ، وأشْرَفَهُ في العَرَبِ وكَانَ هَذَا الحِلْفُ في ذِي القَعْدَةِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، بَعْدَ حَرْبِ الفِجَارِ ، وسببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فصَعِدَ الزبيدي عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَنَادَى بِأَبْيَاتِهِ المَشْهُورِةِ، رَافِعًا صَوْتَهُ:

يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضاعَتَهُ … بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ

فَقَامَ الزُّبَيْرُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: مَا لِهَذَا مَتْرُوكٌ فَاجْتَمَعَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وَزُهْرَةُ، وبَنُو تَيْمِ بنِ مُرَّةَ، في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ وتَعَاقَدُوا، وتَحَالفوا بِاللَّهِ، لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ المَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، حتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِ حَقُّهُ، فثُمَّ مَشَوْا إِلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ، فَانتزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ.

وفيه قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ حِلْفًا، لَوْ دُعِيتُ بِهِ في الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ” وقيل هو المسمى بحلف المطيبين وقيل بل غيره وفيه قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “شَهِدْتُ حِلْفَ المُطيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي، وأَنا

غُلَامٌ، فمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ ، وإنِّي أَنْكُثُهُ”

عباد الله : وليس من ذلك الحلف في شيء ما قام به بعيد أزمة الخليج في هذه البلاد أشخاص [عام 1413] كوَّنوا لجنة باسم الدفاع عن الحقوق الشرعية، ونصَّبوا أنفسهم مدافعين عن المظلومين، كان دافعه سياسيا كما صرح به رئيسها مؤخرا .

فكان للإمام ابن عثيمين حواره المعروف معهم : بين فيه أن الظلم الموجود، والغش وغيرها ، كان أصله موجودا في عهد الرسول، عليه الصلاة والسلام، والاستئثار أخبر عنه النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه وقال لهم: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، فأمرهم بالصبر ، وبين أن سبب وجود مثل هذه من الرعاة هي ظهورها بين الرعية أنفسهم ، فلا جرم أن يُسلَّط عليهم بسبب ظلمهم كما قال الله تعالى

(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)

ثم ذكر أنه ليس من الشرع أن تقوم فئة من الناس بنصب نفسها، وهي تحت ظل حكومة شرعية، وتخوِّل لنفسها أن تنصِّب نفسها، لأنه دخول حكم في حكم، فالذي يولي المناصب سواء قضاء أو إفتاء ونحوهما هو ولي الأمر الذي له البيعة على الناس، وكون طائفة من الناس تعدو على سلطته وتنصب نفسها، رافعة شعار رفع الظلم، هذا خطأ، مهما وُجد من الظلم ، لما يترتب عليه من أضرار عظيمة كتفريق الأمة، والدعاوى الباطلة بالظلم، والعدوان على السلطة، وكل يبرز نفسه بالمظلومية حتى تقوم طوائف البدع بمظلوميتها وعدم اعتبارها .

 


شارك المحتوى:
0