يقول السائل: هل التفويض معتقد لأهل السنة؟ وهل كان السلف مفوِّضين؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: ينبغي أن يعلم: ما معتقد سلف هذه الأمة، وأهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته؟ وما معنى عقيدة التفويض؟
إن أهل السنة والجماعة يقرون أن لأسماء الله وصفاته كيفية ومعنى، إلا أنهم يقولون إن الكيفية مجهولة، أما المعنى فيُعرَف بالرجوع إلى لغة العرب، فهم يُثبِتون المعنى، ويُثبِتون الكيفية، لكنهم يجهلون الكيفية، أما المعنى فيعرفونه بالرجوع إلى لغة العرب.
فلذلك إذا سئل السني السلفي: ما معنى استوى؟ قال: إن الاستواء من جهة الكيفية مجهول، لا نعلم كيف استواؤه سبحانه، كما أننا لا نعلم كيف ذاته سبحانه، أما من جهة المعنى فإن الاستواء معلوم من جهة لغة العرب، وهو بمعنى: علا، وارتفع، وصعد، واستقر.
فإذًا أهل السنة يثبتون الكيفية والمعنى، إلا أنهم يجهلون الكيفية، ويثبتون المعنى بالرجوع إلى لغة العرب، فيقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
فإذًا إذا قال القائل: كيف استوى الله؟
يقال: نجهل هذه الكيفية كما أننا نجهل ذاته سبحانه.
أما معنى الاستواء فهو أنه سبحانه علا وارتفع وصعد واستقر إلى غير ذلك، هذا ملخص معتقد أهل السنة.
أما معتقد المفوِّضة، واشتهرت تسميتهم عند أهل السنة باسم المفوضة، سماهم ابن تيمية أيضًا باسم أهل التجهيل كما في “الفتوى الحموية”، وسماهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب “الصواعق المرسلة” بطائفة اللَّا أدرية، فإن اللَّا أدرية تطلق على طائفتين منهما المفوضة، كما فعل هذا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
فإن المفوضة المبتدعة يقولون: إن أسماء الله وصفاته كحروف المعجم، كحرف الفاء والخاء والحاء إلى آخره، لا يُعرَف معناها، فلا يَعرِف معنى أسماء الله وصفاته، لا الأنبياء، ولا المرسلون، ولا غيرهم من باب أولى.
فلا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم معنى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، ولا يعرف معنى: {وهو السميع العليم} ، إلى غير ذلك، فهي بمقام حروف المعجم التي لا يعرف معناها، هذا قول المفوضة، لذلك سماهم أهل السنة بأهل التجهيل واللَّا أدرية؛ لأنهم لا يعرفون معنى أسماء الله وصفاته.
وهذا اعتقاد باطل للغاية، ووجه ضلال هذا الاعتقاد من أوجه:
منها وهو الوجه الأول: أن الله أمرنا بتدبر كتابه، قال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب} [ص:29].
فكيف يتدبر ما لا يعرف معناه؟ بل كيف أعظم ما في كتاب الله من أسماء الله وصفاته يُجهَل ولا يعرف معناه؟
الوجه الثاني: أن الله قال: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} [يوسف:2]، إلى غير ذلك مما ذكر في كتابه، فأرجع الأمر إلى أن نعقل كتابه، فكيف نعقل ما يجهل ولا يعرف معناه؟ بل ما لا يعرفه الأنبياء ولا المرسلون؟ !
إلى غير ذلك من الأوجه الكثيرة التي ذكرها أئمة السنة، وممن ذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه “درء تعارض العقل والنقل”، وابن القيم في كتابه “الصواعق المرسلة”، وفي كتابه “مدارج السالكين”، وذكره أهل السنة في مواضع أخر من كتبهم.
فبينوا أن التفويض ليس مذهبًا للسلف، وأنه تجهيل لأعظم ما في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ينزل الله كتابًا حكمًا ونبراسًا، ومرجعًا للعباد وهم يجهلونه ولا يعرفون معناه؟ إذًا لكان بقاء الناس بلا كتاب أحسن من بقائهم مع كتاب الله وهم لا يعقلون أسماء الله ولا صفاته، وهي بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين، فضلًا عمن غيرهم هي مجهولة غير معقولة المعنى.
والردود على هذه الطائفة ردود كثيرة، لكن تقدمت الإشارة إلى بعضها ولا يناسب المقام للإطالة في ذلك.
فإذًا هذه الطائفة هي من شر الطوائف كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنها تنسب الجهل إلى ما في كتاب الله، وإلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم يجهل كتاب الله، وإلى أن الصحابة الكرام كأبي بكر وعمر يجهلون أعظم ما في كتاب الله من أسمائه وصفاته سبحانه.
فإذًا هذه الطائفة طائفة ضالة مبتدعة.
أما نسبة قول المفوضة للسلف فهذا خطأ قطعًا؛ فإن كلام السلف كثير في خلاف اعتقاد المفوضة، وهذا يتبين من أوجه:
الوجه الأول: أنه ثبت عن أبي عبد الرحمن ربيعة الرأي، فيما رواه البيهقي والخلال وغيرها، وثبت عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، أنهم سئلوا عن الاستواء، فقالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب.
فقولهم: الاستواء معلوم، هذا رد صريح على المفوضة، فقد جعلوا الاستواء معلومًا، وذلك لما سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه:5]، فرد الإمام مالك وقبله شيخه ربيعة الرأي بهذا الرد بأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب.
فدل هذا على أن السلف ليسوا مفوضة، وهذا ميزان لجميع صفات الله كما بين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه “مدارج السالكين”، وبين غيرهم من أئمة السنة، هذا الأمر الأول مما يَرُد القول بأن السلف مفوضة.
أما الأمر الثاني: فقد روى البيهقي والخلال وغيرهم من أئمة السنة أن الإمام مالكًا وغيره من أئمة السنة لما سئلوا عن أحد الأخبار التي جاءت في الصفات، قالوا: أمرِّوها كما جاءت، وفي رواية: أمروها كما جاءت بلا كيف، ونقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسبه إلى الخلال في كتابه “السنة”، وخرجه غير الخلال.
فقولهم: “أَمِرُّوها كما جاءت يدل على أن لها معنى جاءت به، لاسيما قولهم: بلا كيف، فإنها لو كانت مجهولة لا يعقل معناها لما كان فائدًة من قول بلا كيف، فقول أمروها كما جاءت بلا كيف يدل على أن لها معنى.
الأمر الثالث: لو كان السلف جاهلين بمعنى أسماء الله وصفاته لنقل عنهم شيء يدل على ذلك، ولم ينقل عنهم حرف واحد يدل على هذا.
فخلاصة الجواب: أن اعتقاد المفوضة اعتقاد بدعي، وهو من شر الاعتقادات في باب الأسماء والصفات، ومن شر الإلحاد في باب الأسماء والصفات، كما بين هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ونسبة هذا إلى السلف غلط، فينبغي لأهل السنة أن يعرفوا عقيدة التفويض التي تقدم ذكرها؛ لأن بعضهم صار ينسب التفويض إلى أهل السنة قطعًا؛ لأنه يجهل معتقد أهل السنة.
بل صار ينسب بعض المفوضة إلى أهل السنة، وهذا خطأ ينبغي أن نكون فطنين لمعتقد أهل السنة عارفين، وأن نكون له غيورين بألا ننسب إليه ما ليس منه.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمَنا ما يَنْفَعَنَا، وأن يَنْفَعَنَا بما عَلَّمَنَا، وجزاكم الله خيرًا.