يقول السائل: يتم تداول مقطع ذكرك المتحدث فيه أن الصحيح في المدة التي يترخص فيها برخص السفر، أن من أقام تسعة عشر يومًا أو أقل فإنه يُعتبر مسافرًا، وإذا زاد على ذلك فله حكم المقيم، واستند في ذلك على قول ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وذكر أن قصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجه بالأبطح ومنى وعرفة ومزدلفة أكثر من أربعة أيام، فما الراجح في هذه المسألة؟
الجواب:
يقال: ينبغي أن يُعلم أن هذه المسألة كثيرة الخلاف، وقد ذكر الخلاف فيها ابن المنذر في كتابه (الأوسط)، وتوارد العلماء على ذكر ذلك في كتبهم.
وينبغي أن يُعلم أن الموقف في المسائل المختلف فيها أن يُرجح القول الذي يدل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا الواجب على كل من نظر في الأدلة ممن كان مستطيعًا للترجيح أن يتعامل مع الأدلة بتعاملٍ يُرجح فيه ما يغلب على ظنه أنه مما يريده الله وأنه دين الله.
وهذه المسألة هي المسماة بمسألة: [الإقامة في السفر]، وصورة هذه المسألة: أنه لو قُدر أن رجلًا من أهل الرياض سافر إلى جدة، فجلوسة بجدة ثلاثة أيام تسمى إقامة في سفر، وهذا خلاف من جدَّ به المسير، أي في طريق سيره ما بين الرياض وجدة، فليس البحث في طريق سفره بين الرياض وجدة مثلًا، وإنما في إقامته في جدة، فتسمى إقامةً في سفر.
وينبغي أن يُتنبه في هذه المسألة إلى ما يلي:
الأمر الأول: أن كل من أقام في سفرٍ إقامةً لا يعرف ولا يعلم النهاية، أي لا يعلم متى ينتهي من إقامته فإن له أن يقصر ولو طالت المدة بإجماع أهل العلم، حكى الإجماع ابن المنذر وأفتى بهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيما رواه مالك في الموطأ وغيره.
فكل من أقام بأرض ولم يُجمع الإقامة أي لا يعلم متى تنتهي إقامته، فإن له أن يقصر ولو طال زمن إقامته، وهذا بالإجماع كما تقدم.
فلو قُدر أن هذا الرجل الذي سافر من الرياض إلى جدة سافر للعلاج وهو لا يدري متى ينتهي العلاج، ولا يدري متى ينتهي من مراجعته للمستشفى، فإن له أن يقصر ولو طال الزمن.
الأمر الثاني: ينبغي أن يُعلم أن تنقُّل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجه تنقُّل مسافر، فإنه أول ما جاء طاف بالبيت طواف القدوم وسعى سعي الحج، والصحابة معه مختلفون ما بين معتمرين، إلى غير ذلك.
فلما انتهى بات بذي طوى الفجر كما في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
ثم ذهب إلى الأبطح صبيحة اليوم الرابع، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، فلم يُصل بالأبطح صلاة الفجر، وإنما أتى الأبطح ضحى اليوم الرابع، فجلس بها إلى أن صلى الفجر بها صبيحة اليوم الثامن، كما في حديث جابر في صحيح مسلم.
فهذه هي أطول مدة أقامها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، لأجل هذا تنازع العلماء ومنهم من قال أربعة أيام، ومنهم من قال ما لم يبلغ أربعة أيام، على خلافٍ في تحديد هذه المدة.
أما تنقُّله بعد ذلك إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى مزدلفة ثم رجوعه إلى منى، فهذا تنقُّل مسافر، كما بيَّنه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
فلو قُدر أن هذا الرجل الذي سافر إلى جدة وجلس بها ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك خرج من جدة وذهب إلى بحرة وجلس بها ثلاثة أيام، ثم خرج منها وذهب إلى ينبع وجلس بها ثلاثة أيام، فإنه يقصر في كل واحدة، وكلما أتى مدينة يبدأ العد من جديد، وهذا هو حال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تنقَّل من الأبطح إلى منى، إلى عرفة، إلى مزدلفة، وهكذا.
فإنه ليس كحالنا اليوم يثبت له ماكنا في منى ويرجع إليه، وإنما ينتقل هو ورحله، فتصبح منى فارغة، ثم ينتقلون هم ورحلهم في عرفة، ثم في مزدلفة، وهكذا، ثم يرجعون إلى منى فيبدأ العد من جديد.
لأجل هذا لم يجعل العلماء تنقُّله هذا مدة إقامة في سفر لأنه تنقُّل في سفر لا إقامة في سفر كما تقدم نقله عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
إذا تبيَّن هذا؛ فإن أطول مدة أقام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفره هو إقامته بالأبطح كما تقدم، هذه هي أطول مدة أقامها -صلى الله عليه وسلم-.
وعندنا أصل وهو قوله تعالى: ﴿إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾، مقتضى هذه الآية بمفهوم المخالفة أن من لم يضرب في الأرض فليس له أن يقصر، فإذن القصر لا يكون إلا إذا جدَّ به المسير.
ويُستثنى من هذا فعله -صلى الله عليه وسلم- بالأبطح، بأن يُنظر إلى أطول مدة، وهو فعله بالأبطح -صلى الله عليه وسلم-.
فإذن على هذا يُقال: إن أطول مدة أقام بها هي جلوسه بالأبطح، وجلوسه بالأبطح لم يتم فيه أربعة أيام -صلى الله عليه وسلم-، فهو ثلاثة أيام، وإن صحَّ التعبير: (وزيادة)، والعرب تغتفر الكسر، فهو ما بين أن يقولوا ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وهكذا.
فعلى هذا من عزم على الإقامة فإن له أن يقصر ما لم يعزم على الإقامة أربعة أيام، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وهو قول الإمام الشافعي ومالك، وقيل أحد قولي مالك، وهو قول أحمد في رواية، وهو قول سعيد بن المسيب، وعزاه بعضهم إلى أهل المدينة، أي أن أهل المدينة على هذا العمل.
ويؤيد هذا القول ما ثبت في الصحيحين من حديث العلاء الحضرمي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا»، وبعد الثلاث أربع، أي ألا يتم أربعة أيام، فحديث العلاء الحضرمي مع فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقيان في أنه لم يتم أربعة أيام.
وأيضًا يدل لذلك ما ثبت في الموطأ أن عمر -رضي الله عنه- أذن لليهود أن يقيموا بالمدينة لتجارتهم ثلاثة أيام، وصححه أبو زرعة. أي ما لم يتم أربعة أيام.
إذا فُهم ما تقدم وجُمع بعضه إلى بعض تبيَّن أنه ما لم يتم أربعة أيام فإن له أن يترخَّص برخص السفر، أما إذا أراد أن يُتم في إقامته أربعة أيام فأكثر فإنه لا يترخَّص برخص السفر.
وهذا هو أطول ما نُقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فإن قيل: قد قصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة تسعة عشر يومًا، وقيل خمسة عشر يومًا على نزاع بين أهل العلم؟
فيقال: قال الإمام أحمد، قلَّ من يفقه هذا، هذا ما لا تُعلم نهايته، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة مُقاتلًا لفتح مكة وهو لا يعلم متى يفتتح مكة ومتى يرجع، فلأجل هذا أصبح غير معلوم النهاية، فلذلك له أن يقصر ولو طالت المدة.
وما نُقل عن ابن عباس ورواه البخاري أنه تسعة عشر يومًا، وجاءت روايات أخرى عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام أقل من ذلك، وقد قال ابن عبد البر في كتابه (الاستذكار): والروايات عن ابن عباس مضطربة في هذا.
فقول ابن عباس أولًا في المتن اضطراب واختلاف، فالرواة مختلفون في تحديد هذه المدة.
ثانيًا: هذا مما لا تُعلم نهايته، وقد تقدم قول ابن عمر فيما لا تُعلم نهايته أن له أن يقصر ولو طالت المدة.
فإذا كان كذلك فقول ابن عباس أولًا مختلف في صحته، وثانيًا مخالف لما أجمع عليه العلماء من أن من لا تُعلم نهايته فله أن يقصر أبدًا، كما تقدم تقريره، وبه أفتى ابن عمر -رضي الله عنهما-.
أما القول بأن للمسافر إذا أقام في سفره أن يقصر أبدًا من غير حد ولو كان معلوم النهاية، أي لو سافر إلى بلد وأراد أن يُقيم به شهرًا أو شهرين فإن له أن يقصر بلا تحديد، ولو كان يعلم النهاية، فقد حكى إسحاق بن راهويه الإجماع على خلاف ذلك، ونقله ابن المنذر في (الأوسط) وأقره.
فلذا الأظهر -والله أعلم- أنه ما لم يتم أربعة أيام وبه كان يُفتي شيخنا ابن باز -رحمه الله تعالى-.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.