يقول السائل: ذكر بعض المشايخ في شرحه على كتاب التوحيد أنَّ مسألة التشريع العام من الكفر الأكبر، وأنَّ هذا اختيار العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى-، ثم ذكر أحكام الدار وأنَّ مناط الحكم عليه بالإسلام أو ضده يرجع إلى ظهور القانون أو خفائه… إلى آخر كلامه، ثم يقول: ما مدى صِحَّة ما قررهُ؟
الجواب:
أولًا الذي قرَّرهُ أئمة السنة وعلماء السنة أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ دون كفر، كفرٌ أصغر لا كفرٌ أكبر، من فتاوى الصحابة من عبد الله بن عباس إلى من بعده من التابعين وأصحابه، إلى غير ذلك، فقد روى ابن جرير وغيره عن أصحاب عبد الله بن عباس أنهم صرَّحوا أنه كفرٌ دون كفر، وقال ابن عباس كما رواه المروزي وغيره بإسنادٍ صحيح: ليس الكفر الذي تذهبون إليه.
وأيضًا روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قال: كفرٌ دون كفر. وحاول بعضهم أن يُضعِّفه لأجل هشام بن حجير، وتضعيفه مردودٌ عليه بثبوت معناه عن ابن عباس بطرقٍ صحيحة وبأنَّ هذا القول عليه أصحاب عبد الله بن عباس، إلى غير ذلك من التفصيل الطويل الذي بُيِّن في غير هذا الموضع، كما بيَّنته -بحمد الله- في كتابي (تبديد كواشف العنيد في تكفيره لدولة التوحيد) وهو ردٌّ على أبي محمد المقدسي التكفيري، وبيَّنته في كتابي (الإلمام شرح نواقض الإسلام) وكتابي (البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير)، إلى غير ذلك.
فالمقصود أنَّ فهم السلف من الصحابة والتابعين وما عليه العلماء والمفسرون أنه كفرٌ أصغر لا أكبر، والمراد الحكم بغير ما أنزل الله، ولم يُفرِّق العلماء بين التشريع العام وغيره، ولو كان هناك فرق لبيَّنوهُ، فإذن لا فرق بينهما.
وقول القائل إنَّ التشريع العام مسألةٌ نازلة لم يكن عليها الأولون، فيقال: حتى ولو لم يوجد من يُقرر التشريع العام في الماضين إلا أنه لو كان كفرًا لبيَّنه أهل العلم، ومع ذلك لا تخلو قرون المسلمين من وجود حكام يحكمون بغير ما أنزل الله وقد يجعلون أحكامًا مخالفة لحكم الله، إلى غير ذلك، ومع ذلك لم يُؤثر عنهم أنهم قالوا إنَّ التشريع العام كفرٌ مُخرج من الملة دون غيره.
لذا ذكر شيخنا ابن باز -رحمه الله تعالى- أنَّ قول أهل السنة في هذه المسألة أنها كفرٌ أصغر لا أكبر، وسُئل عن فهم العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وقال: قوله كقول بقية أهل السنة أنه أصغر لا أكبر. ذكر هذا في فتاواه -رحمه الله تعالى-.
وللعلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- قبل وفاته بسنتين فتوى في بيان أنه كفرٌ أصغر لا أكبر، وقد ذكر العلامة الألباني أنَّ قول أهل السنة في هذه المسألة أنه كفرٌ أصغر لا أكبر.
فالمقصود أنَّ محاولة نسبة هذا القول للعلامة محمد بن إبراهيم فيه نظر ولا يصح، وأوثق الناس فيه هو شيخنا ابن باز -رحمه الله تعالى- ومع ذلك نقل عنه أنه قرَّر أنه كفرٌ عمليٌّ أصغر لا كفرٌ أكبر، فمن نسبَ إلى الشيخ محمد بن إبراهيم خلاف ذلك ففي نسبته نظر، وما نسبه شيخنا ابن باز مُقدَّمٌ على قوله.
فإذا تبيَّن أنه أصغر لا أكبر، فمن فضل الله على علماء أهل السنة أنهم يُهدَون إلى الهدى وإلى ما عليه الحق، فقد كان شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- يُقرر أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله أصغر لا أكبر إلا في التشريع العام، لكن تراجع في آخر حياته قبل وفاته بسنة، وهذا مُسجَّل ومُثبَّت ومُؤرَّخ بصوته -رحمه الله تعالى-.
ثم محاولة جعل دار الإسلام هي التي تحكم بما أنزل الله ودار الكفر هي التي تحكم بغير ما أنزل الله، فهذا فيه نظر وهو خلاف ما يُقرره أهل السنة لما تقدم ذكره من أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله أصغر لا أكبر، ولا يُخرج لا الدار ولا الأفراد ولا الجماعات من الإسلام فضلًا عن أن تكون الدار دار كفرٍ، كما يُشير إليه السائل.
ولبسط هذا الكلام موضعٌ آخر، وقد سبق بسطه فيما تقدمت الإشارة إليه.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.