يقول السائل: قال أحمد عن الإمام معرِّضًا: “اصبروا حتى يستريح بَرٌّ، أو يستراح من فاجر”، هل هذا جائز؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: إن هذه الكلمة لم ينفرد بها الإمام أحمد، بل ذكرها من الصحابة أبو مسعود البدري رضي الله عنه وأرضاه، فقد قال رحمه الله تعالى: «اصبروا حتى يستريح بَرٌّ، أو يستراح من فاجر»، رواه ابن أبي شيبة، وهو ثابت عنه، صحَّحه الحافظ ابن حجر، وغيره.
ثم توارد على ذلك أئمة السنة، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهذا الأثر يدل على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة، كالصبر على جور الحاكم وظلمه، وعدم الخروج عليه، مهما كان فاسقًا وظالمًا، وداعية إلى فسوق، أو بدعة بما أنه مسلم.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستلقون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها».
قوله: «إنكم ستلقون بعدي أثرة»، هذا خطاب لأهل الدنيا، أي: الظلم في دنياكم، «وأمورًا تنكرونها» هذا خطاب لأهل الدين، يعني: ستجدون معاصي وذنوبًا من الحُكَّام.
قالوا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»،وفي حديث أسيد في الصحيحين: «اصبروا حتى تلقون الحوض».
ومما يدل على ذلك أيضًا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر»، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
فهذا الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل، أو هي دليل على ما ذكر أبو مسعود البدري رضي الله عنه لما قال: «اصبروا حتى يستريح بَرٌّ، أو يستراح من فاجر».
أما قول السائل: إنه يعرض الإمام أحمد بالحاكم.
فيقال: ليس شرطًا، وإنما هذا تأصيل، وهو أن معتقد أهل السنة: الصبر على الحاكم مهما كان فاجرًا، وأن الأمر قريب، فهو ما بين أن يموت هذا الفاجر فيستراح منه، أو يموت الصابر الصالح فيسلم في دينه ودنياه، لذا قال: «اصبروا حتى يستريح بَرٌّ أو يستراح من فاجر»، وليس في هذا تعريض ولا تنصيص على أن الحاكم فاجر، بل على تقدير أنه فاجر، فهذا هو معتقدنا يا أهل السنة.
ثم اعلموا أن الصبر على جور الحاكم فيه خير الدنيا والآخرة، أما الخير في الآخرة فهو أن القيام بذلك فيه طاعة لله، وهي عبادة، كما يطاع الوالدان؛ لأن الله أمر بطاعتهما، كذلك يطاع الحاكم؛ لأن الله أمر بطاعته.
وطاعة كل أحد سوى الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تجوز في معصية الله سبحانه وتعالى، سواء كان الحاكم، أو كان الأمر متعلقًا بالوالدين، فكل طاعة لغير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهي مقيدة، بألا تكون في معصية الله.
ومن خير الآخرة في ذلك أنه مع وجود الحاكم ولو كان ظالمًا يوجد الأمن، الذي يتيسر فيه عبادة الله وطاعته، وهذا ما لا يتيسر مع الفتن، وانقلاب الأمور، وذهاب الحكام، وانفلات الأمر، عافاني الله وإياكم وجميع المسلمين أجمعين.
أما خير الدنيا فإن في طاعة الحاكم الأمن والأمان مما يتيسر للناس صلاح معاشهم وجمع شملهم، وحفظ أعراضهم، وأنفسهم، وأموالهم، إلى غير ذلك، لذا تكاتفت الأدلة الشرعية في السمع والطاعة للحاكم، وكتب الاعتقاد متوافرة في ذلك، وأهل السنة مجمعون على هذا، وهو أنه يجب الصبر على الحاكم مهما كان ظالمًا فاسقًا، بما أنه مسلم، ويسمع ويطاع له في غير معصية الله.
واعلموا أن كل من يدعو لخلاف ذلك فإنه يدعو إلى معتقد بدعي ضال، ثم اعلموا أن النار العظيمة من مستصغر الشرر، فأول الخروج على الحاكم، وأول سبب للفتن هو نشر عيوبه وأخطائه بين الناس، وانتقاصه، فإن هذا سبب عظيم لذهاب الأمن وانفلاته.
روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم أنه قال: «والله لَا أُعِينُ عَلَى دَمِ خَلِيفَةٍ بَعْدَ اليوم، قالوا: أو أَعَنْتَ عَلَى دَمِ عثمان؟ قَالَ إِنِّي لأَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِئهِ من الإعانة عَلَى دَمِهِ».
إذًا، ذكر أخطاء الحاكم وإشاعة ذلك سواء كانت بحق أو غير حق، هذا محرم، وهو سبب للفِتَن، عافاني الله وإياكم.
وثبت في سنن سعيد بن منصور أن سعيد بن جبير قال لعبد الله بن عباس: «ألا أقوم على الحاكم فأمره بالمعروف، وأنهاه عن المنكر؟ قال ابن عباس: «إن كان ولابد ففيما بينك وبينه، ولا تغتب إمامك».
فدل هذا على أن ذكر أخطاء الحاكم ولو كانت حقًا من ورائه هذه غيبة ولا تجوز، بل ذكر الشيخ ابن عثيمين أن غيبة الحكام والعلماء أشد من غيبة غيرهم، مما يترتب على هذا من فساد الدنيا والدين، كل هذا في الحاكم المسلم، فإنه يجب السمع والطاعة له في غير معصية الله.
أما إذا كان الحاكم كافرًا، وكان عند المسلمين قدرة على الخروج فيجب على المسلمين أن يخرجوا، لكن إذا كان لم يكن عند المسلمين قدرة، أو ترتب على الخروج مفسدة أكبر فإن مثل هذا الخروج محرم.
ويجب على المسلمين أن يصبروا على الحاكم الكافر لا لصلاحه، أو لكونه مسلمًا، أو لأن في أعناقهم بيعة له، كلا! لأنه كافر، وإنما لضعف المسلمين، ومن القواعد المتقررة: أنه لا واجب مع العجز، والله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، وإلا بقاء ولاية الحاكم كافرًا على المسلمين هذا محرم، قال الله -عز وجل- : {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء:141].
فإذًا ليس للحاكم ولاية، وبقاء ولايته محرمة، لكن إذا لم يكن عند المسلمين قدرة فإنهم يصبرون.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يبصِّر المسلمين باعتقادهم، وأن يجنبهم الفتن، وأن يجمع شملهم على التوحيد والسنة، وأن يأخذوا العبرة من البلدان التي هاج فيها المسلمون، وهيجهم دعاة الفتنة، فصارت المفسدة أكبر وأكبر.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمَنا ما يَنْفَعَنَا، وأن يَنْفَعَنَا بما عَلَّمَنَا، وجزاكم الله خيرًا.