يقول السائل: يمر إخواننا بحلب بإبادة، فحبذا أن تذكر لنا بعض الأحكام المتعلقة بقنوت النازلة؟
الجواب:
إن لقنوت النازلة أحكامًا ذكرها أهل العلم في كتب الفقه من علماء المذاهب الأربعة ومن غيرهم، وألخص ما تيسر من هذه الأحكام على عجالة، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يمُنَّ علينا جميعًا بالعلم النافع والعمل الصالح.
الحكم الأول: يستحب أن يكون قنوت النازلة في الصلوات الخمس كلها، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- «أن النبي ﷺ قنت في صلاة الظهر، والعشاء، والفجر»، وثبت في مسلم من حديث البراء -رضي الله عنه- «أن النبي ﷺ قنت في الصبح والمغرب».
وثبت عند أبي داود من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن النبي ﷺ قنت شهرًا متتابعًا في الصلوات الخمس».
وقد ذهب إلى هذا الشافعي، والإمام أحمد في رواية، وهو اختيار ابن تيمية.
أما صلاة الجمعة فلا يُقنَت فيها؛ لأنه لم يثبت في ذلك حديث عن رسول الله ﷺ، وعلى هذا المذاهب الأربعة.
فإن قيل: أليس لصلاة الجمعة أحكام صلاة الظهر؟
فيقال: ليس كذلك على الإطلاق، بل بينهما فروق، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) ما يقرب من ثلاثين فرقًا بين أحكام صلاة الجمعة وصلاة الظهر.
الحكم الثاني: لا يشترط لقنوت النازلة إذن ولي الأمر، كما ذهب إلى هذا الشافعية، والحنابلة، ولم يذكر اشتراط الإذن لا الحنفية ولا المالكية، والأصل عدم اشتراط ووجوب أخذ إذن ولي الأمر لقنوت النازلة.
إلا أن هناك فرقًا بين أن ينهى ولي الأمر، وبين ألا يأمر ولا ينهى، فإذا نهى ولي الأمر في دولة من الدول أن يقنت أحد إلا بإذنه أو بإذن نائبه من وزير الشؤون الإسلامية أو المفتي العام، فإنه لا يصح لأحد أن يقنت في الصلوات الخمس؛ لأنه نهى، وقد تعارض مستحب مع واجب، وهو وجوب طاعة ولي الأمر، فتجب طاعته، ولا يصح لأحد أن يخالف ذلك ويقنت.
ففي بلادنا بلاد التوحيد والسنة السعودية -أعزها الله بالتوحيد والسنة وجميع دول المسلمين- نهى ولي الأمر عندنا أن يقنت أحد إلا بإذنه أو بإذنٍ يأتي من وزارة الشؤون الإسلامية، أو من سماحة المفتي، وأوكل الأمر للعلماء حتى لا يحصل في الأمر انفلات، ولا يتقدم الجُهَّال بعبادات لا دليل عليها كما هو الحال في بلادنا، فلذلك ضبط ذلك ولي الأمر بإذنه، فلذلك يجب التقيد بهذا ولا يصح مخالفته.
وهذا بخلاف الدول المسلمة التي لا يأمر ولا ينهى حاكمها عن شيء يتعلق بالعبادات، فالأصل أن يقنت الناس، ولا يجب أخذ إذن ولي الأمر.
الحكم الثالث: كل مصلٍ يقنت، فيستحب القنوت لكل مصل، سواء كان إمامًا، أو منفردًا، أو مسافرًا، أو المرأة إذا صلت في بيتها، فالقنوت يصح للجميع، فالشريعة جاءت بالقنوت، ولم تحدد ولم تأمر الإمام دون المأموم، أو أن تجعل القنوت خاصًّا بالجماعة دون غيرها، وقد ذهب إلى هذا الإمام أحمد في رواية، وهو قول للإمام الشافعي، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية لما تقدم ذكره.
لكن يتنبه إلى أنه لا يصح القنوت في النافلة؛ لأنه لا دليل على ذلك، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة ومالك وأحمد.
الحكم الرابع: القنوت في النازلة معلق بسبب وهي النازلة، فلذلك يكون مشروعًا بوجود هذه النازلة، ومتى ما ارتفعت هذه النازلة فلا يشرع القنوت، فقنوت النازلة معلَّق بالنازلة وجودًا وعدمًا، ذكر هذا جماعة من أهل العلم من المالكية كابن بطال في شرحه على البخاري، وذكره غيرهم من أهل العلم.
الحكم الخامس: لم يثبت -فيما أعلم- حديث عن رسول الله ﷺ في صيغة قنوت النازلة، فلذلك يدعو بما يناسب الحال، كما قرر هذا الشافعية، والحنابلة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، وجماعة من أهل العلم.
فيذكر في القنوت بما يكون سببًا لإجابة الدعاء كالصلاة على النبي ﷺ، وتكرار الدعاء ثلاثًا …وهكذا، لعموم الأدعية، لكن لا يلتزم صيغة معينة، ولا يقع في خطأ يقع فيه كثير من الأئمة، وهو أن يجعل قنوت النازلة موعظة، فيذكر الألفاظ التي فيها الوعظ والحماسة وغير ذلك، وهذا خطأ، بل هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد يكون مانعًا من إجابة الدعاء، وإنما يدعو بما جاءت به الشريعة، وبما يوافق الشرع ولا يخالفه، وبما يكون سببًا لاستجابة الدعاء وقبوله.
الحكم السادس: لم يثبت شيء عن النبي ﷺ ولا عن صحابته -رضي الله عنهم- في مقدار دعاء قنوت النازلة، بمعنى أن يدعو ربع ساعة، أو عشر دقائق، أو أكثر، أو أقل.
فلذلك يدعو بما يناسب من غير إطالة حتى لا يشق على المأمومين، ولو اقتصر الإمام على الدعاء بجوامع الأدعية، وعلى الطريقة النبوية بما يناسب الحال فإنه لا يحتاج أن يطيل، وإنما الذي يحتاج أن يطيل هو الذي يجعل قنوت النازلة موعظة وسببًا لترقيق القلوب وغير ذلك، وهذا خطأ كما تقدم بيانه.
الحكم السابع: من أراد أن يدعو للنازلة فهو مخيَّر بين أن يدعو قبل الركوع أو بعده، وإن كان الدعاء بعد الركوع أفضل؛ لأنه الثابت عن النبي ﷺ كما في أخرج الشيخان عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: «دعا النبي ﷺ بعد الركوع على أحياء من العرب»، وقد ذهب إلى هذا الإمام أحمد، وعزاه ابن تيمية إلى فقهاء أهل الحديث.
وقد ثبت القنوت قبل الركوع عن الصحابة، ثبت عن عمر -رضي الله عنه- عند البيهقي، وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- عند عبد الرزاق، وعثمان -رضي الله عنه- وصححه العراقي في كتابه (طرح التثريب).
الحكم الثامن: من دعا قبل الركوع فيستحب له التكبير، بمعنى إذا قرأ الفاتحة، ثم قرأ ما تيسر من القرآن، فقبل أن يقنت يكبر، فيقول: الله أكبر، ثم يقنت، وهذه سنة مهجورة، وقد ثبتت عن الصحابة الكرام، فثبتت عن عمر -رضي الله عنه- فيما خرجه البيهقي، وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- فيما خرجه عبد الرزاق، وقد ذهب إلى هذا الحنفية، وهو قول عند الشافعية والحنابلة، وهو قول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
ونحن مأمورون باتباع الصحابة لاسيما الخلفاء الراشدون، كما في حديث العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رضي الله عنه- الذي أخرجه الخمسة إلا النسائي أن النبي ﷺ قال: «فعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
الحكم التاسع: يستحب عند القنوت أن ترفع اليدان، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وثبت هذا عن عمر -رضي الله عنه- في قنوت النازلة فيما أخرجه البيهقي.
فأوصي إخواني أن يدعوا لإخواننا في حلب، وأن يقنتوا لهم، فإن المفتي العام في بلادنا قد أذِنَ ودعا للقنوت لهم في صلاة الفجر، فلذا في بلادنا السعودية يستحب القنوت في صلاة الفجر، كما أُذِنَ بذلك، ودعا إليه سماحة المفتي العام، وأما في غير بلادنا إذا أذن ولي أمرهم أو نائب ولي الأمر فإنهم يفعلون، أما إذا كانت الدولة لا تمنع ولا تأمر، وجعلت الأمر راجعًا للإمام ولاجتهاده، فأحث هؤلاء الأئمة أن يغتنموا الفرصة وأن يدعوا، وكذلك مَن كان في دولة كافرة فإني أحث المسلمين هناك أن يستغلوا الأمر وأن يدعوا، إذا لم يترتب عليه مفسدة بأن يدعو دعاء القنوت في الصلاة.