[ أمر الفتوى والمُفتين ]
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله موتى القلوب ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم ، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وأمره أن يبين للناس ما نزل إليهم { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من الأحكام والوعد والوعيد، فكان المسلمون يرجعون إليه فيما أشكل عليهم من أمور دينهم ودنياهم، ويسألونه فيفتيهم ويبين لهم الحق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عنده جواب عن بعض الأسئلة ينتظر حتى ينزل عليه الوحي من الله عز وجل ، وبعد موته صلى الله عليه وسلم رجع الناس للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء بالعلم النافع والعمل الصالح، قال صلى الله عليه وسلم « وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ولعلم الصحابة رضي الله عنهم بخطورة القول على الله بغير علم كانوا يتدافعون الفتوى، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول»، وفي رواية: « ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا » .
ولقد كانوا رضي الله عنهم يغضبون إذا تصدر القصاص والوعاظ للفتوى بغير علم، فهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما بلغه أن أحد القصاص يَزْعُمُ أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ تَجِىءُ فَتَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وكان ابن مسعود مضطجعا لما بلغه الخبر فغضب وجَلَسَ ثم قال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}، كيف لو رأى رضي الله عنه ما ابتلينا به في زماننا من دعاة يخالفون النصوص الشرعية، وما سار عليه السلف الصالح، وما أفتى به الراسخون في العلم، لا تكاد تسمع من أحدهم قول: الله أعلم، قال عبدالله ابن عباس رضي الله عنه: « من أفتى الناس في كل ما استفتوه فيه فهو مجنون »، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول إذا سئل عن شيء من تفسير القرآن لا يعلمه: « أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم »، وتأملوا فطنة عبدالله ابن عمر رضي الله عنه، قال عقبة بن مسلم: صَحِبْت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا ، فكان كثيرا ما يُسأل ، فيقول : ” لا أدري ” ، ثم يَلْتَفت إليّ ، فيقول : أتَدري ما يُريد هؤلاء ؟ يُرِيدُون أن يَجْعَلُوا ظهورنا جِسْرًا إلى جهنم! وذَكَر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خَرَج عليهم وهو يقول : ما أبْرَدَها على الكَبْد! فقيل له : وما ذلك ؟ قال : أن تَقول للشيء لا تَعْلَمه : الله أعْلَم .
وعلى نهج الصحابة سار التابعون وتابعوهم حتى زماننا في التورع عن الفتيا مع ما هم عليه من العلم والفضل؛ جاء رجل إلى مالك بن أنس – عالم أهل المدينة – فقال: « يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها ، قال: فسل، فسأله الرجل عن المسألة ، فقال: لا أحسنها، قال : فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك لا أحسن ».
ولا عجب أن يكون هذا موقف الإمام مالك لأنه تلقى العلم من العلماء قبله، وتعلم منهم تعظيم الفتوى وخطر القول بغير علم ، وتعلم أن من يفتي بغير علم أحق بالسجن من مرتكبي الجرائم ، فقد دخل مالك على شيخه ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق) كيف لو رأى من يفتي في زماننا؟
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، أما بعد :
فإن معنى الفتوى بيان الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ، وليست الفتاوى بالرأي والفكر، بل هي حكم شرعي يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله بفهم سلفنا الصالح خير القرون، والمفتي يقول أن الله أحل لك هذا أو حرم عليك هذا، فإن كان عالما ثم اجتهد وأصاب فله أجران أجر موافقة الحق وأجر اجتهاده، وإن كان ذا علم ثم اجتهد فأخطأ من غير قصد له أجر واحد وهو أجر اجتهاده، ولا يؤخذ منه الخطأ بل لابد من الرجوع إلى الصواب إذا تبين للسائل، ولقد أمر الله بسؤال أهل العلم{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فلا يسأل إلا من تبرأ به الذمة من العلماء الذين بذلوا أعمارهم في تحصيل ميراث الأنبياء كابرا عن كابر بلزوم طلب العلم ونشره، وعرفوا بحسن القصد وصالح العمل وصحة المعتقد واتباع منهج السلف الصالح ، وأوتوا حظا من الورع، الذين وصفهم الله بأنهم أخشى الناس له سبحانه{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }.
فليس العالم من كان فصيحا بليغا يسحر الناس ببيانه، وليس العالم من أثر على الناس بوعظه وبكائه ، وليس العالم من كثر اتباعه وجماهيره.
أيها المسلم: لن تبرأ ذمتك بالرجوع في الفتوى إلى القصاص والجهال، أو أهل الأهواء والشهرة والفضائيات، فالفتوى من الدين، قال محمد بن سيرين من أئمة التابعين: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)، وكم سمعنا من فتاوى نشاز يتفوه بها أصحابها في وسائل الإعلام بلا حياء ولا خوف، فيتسارع إليها الجهال ومن في قلبه مرض، ويفرح بها متتبعوا الرخص، يصدرونها باسم فقه التيسير وحب الظهور، وما يحقق رغبة الجماهير، كمن من يفتي بجواز الغناء أو يتلاعب ويقول بعض الموسيقى حلال، ومنهم من يهون من عقوبة الفواحش، وآخر يبيح الاختلاط ومثله يبيح الفوائد البنكية، ومنهم من يجيز عيد الميلاد وعيد الأم، وآخر يقول ببدعية إغلاق المحلات للصلاة، وكبيرهم يفتخر بأنه مفتي الثورات والمظاهرات ، فأي علم ودين وفخر يريده هؤلاء، كفى الله المسلمين شرورهم ، قال صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ».
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في الدين يارب العالمين، اللهم اكفنا شر دعاة الضلال والسوء والفساد، اللهم أعز بلادنا وبلاد المسلمين بالتوحيد والسنة وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان يارب العالمين، اللهم وفق ولاة أمرنا وإخواننا العساكر ورجال الأمن المرابطين في كل مكان، اللهم إننا في بيوتنا ومساجدنا آمنين مطمئنين وهم في الميادين يعملون اللهم احفظهم بحفظك وانصرهم بنصرك اللهم تقبل موتاهم واشف مرضاهم، اللهم عليك بالرافضة والحوثيين، ربنا إنا نعوذ بك من كيد المرجفين والفجار ومن طوارق الليل والنهار، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) }